شكر وتقدير

مدينٌ لعدد من الباحثين والأصدقاء الذين وافقوا على قراءة مسودات سابقة لهذا المقال وأمدّوني باقتراحات قيّمة، رغم أنني أبقى المسؤول الوحيد عن كافة الآراء التي تمّ التعبير عنها فيه وأيّ أخطاء ما زالت عالقة به. من بين هؤلاء د. أسامة الأعظمي، ود. سفارُك شودهري، وا.د. محمد فاضل، ود. سهيل حنيف، وا.د. شيرمان جاكسون، والشيخ أمين خلواديه، ومولانا د. هارون سِيدَات، ومبين وَيد، والشيخ شعيب واني، وغيرهم. كما أتوجه بالتقدير لفريقي في مؤسسةأمّتكس والذي تمّ تطوير وبلورة الأفكار المعبّر عنها هنا من خلال المناقشة معهم.

 

مقدمة

يواجه المسلمون في كل مكان اليوم تهديداتٍ وجوديةً وفرصاً قيمة، والتي يمكن تلخيصها في التحدي الأوحد، ألا وهو التحلِّي بصفة «الأُمَّتِيَّة»1: ﴿إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً واحِدَةً وَأَنا رَبُّكُم فَاعبُدونِ﴾؛ ﴿وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً واحِدَةً وَأَنا رَبُّكُم فَاتَّقونِ﴾.2 إنّ أعظم خصومنا لا يكمنون في عوامل خارجية، بل الخلل داخلي يكمن في عدم القدرة على التخيّل والإرادة، وهو عجز مكتسب «متعلم» حال دون احتضاننا للخالق والخلق معاً. لدينا الكثير لنقدّمه للبشرية للإعانة على تخليصها من عدوّها الألدّ—عبادة الذات وخِداع الذات—لتوجّه نفسها صوب الإله الواحد الحق. يقتضي الأمر النبويّ الذي كُلِّفنا به تقديم الهداية وطريق النجاة للعالم، حتى في حال نزيفنا ومعاناتنا على يديه، بدلاً من الغضب والانتقام من جانب، وفقدان الأمل والرضوخ من جانبٍ آخر. يمكن إطلاق عنان هذه القوة الرحيمة الكامنة في صميم الأمة فقط إذا ما اتّبعنا الدعوة الربّانيّة والنهج النبوي. ولتحقيق ذلك، فلا بد من العزموالإرادة لكي نصبح أمةً حقيقية من جديد.

يشرح هذا المقال مفهوم «الأمتيّة»(ummatics) ، ومن ثَمّ مهمة مؤسسة أمّتكس(Ummatics Institute). وهو الأول ضمن سلسلة مقالات تشرح رؤيةَ وأسسَ مشروعِ الأمتيّة. يأصل المقال للخصوصية الإسلامية الفريدة للتضامن الأمّتي ووجوبه الشرعي الذي هو للمؤمنين سبباً كافياً للقيام بأي أمر وإن شق عليهم. ثمّ يفصِّل المقال مقتضيات الأمر التكليفي بالوحدة من خلال تجزئتها لعدة أبعاد، ويُمَوْضِع الخطاب الأمتيّ مفاهيمياًّ من خلال المفهومين الشرعيين الأساسيين، الإحياء والتجديد، بالإضافة إلى إتاحة التناصح بين علماء المسلمين، وقادتهم، وعامتهم.

بما أنه قد تمّ بالفعل التفاعل مع عدد متزايد وطيف متنوع من العلماء والخبراء في الحوار الأمتيّ على المستوى العالمي، يسعى برنامج أبحاث مؤسسة أمّتكس في خلال بضع سنوات المقبلة بإذن الله تعالى لتحقيق الأهداف المتشابكة التالية: (أ) توسعة نطاقه لكي يشمل طيفا واسعا من العلماء والخبراء المسلمين على الصعيد العالمي؛ (ب) تطوير مجالات المعرفة والتقنية المناسبة للمقام، استلهاماً من تراث المسلمين الفكرية، وحركاتهم، وتجمُّعاتهم الشعبية القائمة، بالإضافة إلى مجاميع المعارف الاجتماعية، والعلمية، والإنسانية المعاصرة؛ (ج) تفصيل وتجسيد الحلول الفكرية والبرامج الملموسة، من خلال استخدام الأساليب والتقنيات المتطلّعة للمستقبل والاستخدام الأمثل لموارد المسلمين ووسائل الاتصال العالمية القائمة. ستتناول المقالات اللاحقة هذا البرنامج بتفصيل إن شاء الله وستعالج الاعتراضات الشائعة المثارة ضد إمكانية تحقيق وحدة المسلمين بفعالية.

نظراً لمدى الطموح البيّن في هذه المهمة وسِعة نطاقها، كان لا بدّ من بعض التنبيهات الجديرة بالذكر. إننا لا نؤمن فقط بالفكر والعمل الجريئين، وبالبحث العلمي الدقيق، بشقَّيه التراثي والمعاصر على حدّ سواء، بل نؤمن أيضاً بالعمل من منطلق الاستمرارية في خطى كبار العلماء ومحيي الإسلام ومجدّديه في الماضي والحاضر والتواضع تجاههم. لا نسعى لاستئصال الجهود العديدة التي يبذلها علماء المسلمين وقادتهم في مختلف المجالات الأمتيّة واستبدالها بغيرها، بل نسعى لتعزيزها. إن أنشطة المسلمين على كافة المستويات—تربية الآباء لأطفالهم، والأمهات اللائي يغنين أغاني أمتيّة لأطفالهن، والأئمّة المعلِّمين لتلاوة القرآن، والدعاة والمربّون المدافعون عن الإسلام والداعون اليه، والعلماء الطبيعيون ورواد الأعمال والمفكرون المتفوقون في مجالاتهم، والأهمّ على الإطلاق، العلماء الربّانيون المتحمّلون الأمر النبويّ الذي كُلِّفوا به بإحياء العلم الشرعي—هي عناصر مكوِّنة ضرورية لازدهارٍ أمتيٍّ شامل.

إننا نسعى لملء فراغ محّوري في الخطاب الإسلامي المعاصر ولتحفيز ثورة حوارية؛ الحرب التي نود خوضها هي على العجز المكتسب الناجم عن قلة الحيلة، والتحقير الذاتي، وروح الهزيمة التي تصيب الكثير من المسلمين. إننا نأبى المساومة في تمسّكنا بازدهار الإسلام من خلال تحقيق الوحدة الأمتيّة بشكل فعّال، كما هو مبين أدناه. ما سوى هذا، فإننا لا نقدم وصفة فريدة ولا برنامج خيالي جاهز من قبل، بل نسعى للتفاعل مع أجيال من المسلمين على مستوى العالم للعمل تجاه حضارة مسلمة موحَّدة. وأخيراً، فإننا نلتمس التعقيبات بروح الإمام الشافعي الذي كان يدعو الله أن يُظهِر الحق على لسان محاوِره وأن يوفَّق هو لقبوله.

 

ما هي «الأمتيّة»

يدلّ مصطلح «الأمتيّة» على كل ما يتعلق بالشؤون الجماعية للأمة الإسلامية. و«الأمّة» مصطلح تمّ تعريفه وتكريمه في القرآن إشارةً إلى أمة أتباع النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، والتي أُطلِق عليها صفة ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ مكرَّمة من الله باعتبارها ﴿أُمَّةً وَسَطاً﴾ والتي دُعيت إلى الاعتصام ﴿بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ وإلى دعوة البشر إلى ما هو خير.3 مصاغة بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، يُتَرجَم مصطلح «الأمتيّة» (في صيغته الاسمية) من حيث المعنى إلى «سياسة الأمة».4 وبالتالي، فإن الأمتيّة هي المصطلح المناسب «للسياسة الإسلامية». وبهذا، فإنه مصطلح عام يشمل الخطابات، والمعتقدات، والممارسات التي من خلالها يتم تصوُّر الأمة ومهمّتها الربّانية والتعبير عنهما، والشعور بتضامنها، ومعالجة شؤونها الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية والدينية وإدارتها.

نسبة «الأمتية» إلى «الأمة» هي بمثابة نسبة «سياسة المدنية (politics)» إلى «المدينة (polis)». وقد يسأل السائل: ما الغاية من ابتكار مصطلح جديد؟ لِم لا نتحدث ببساطة عن «السياسة الإسلامية» أو «السياسة الشرعية»؟5

والجواب أنّ ذلك نظراً لمِحوريّة الكلمات في فهم الأفكار والتعتيم عليها على حد سواء، ولأن تولّي زمام الأمور فيما يتعلق بلغتنا وخطابنا كمسلمين يمثل خطوة أولى نحو تولّي زمام الأمور فيما يتعلق بمصيرنا. كانت عبارة «سياسة المدنية» التي ابتكرها أرسطو تشير إلى الشؤون الجماعية للمدينة وإدارتها، غير أن «السياسة المدنية» يتم فهمها في العصر الحديث بالإشارة إلى الدولة القُطرية الحديثة(modern territorial state).6

لذلك فإن مصطلح السياسة المدنية (politics) لا يشمل بالتحديد ما يقصده القرآن والسنة وكبار علماء الإسلام عند الحديث عن مسائل إسلامية أساسية متعلق بالسياسة مثل الإمامة أو الخلافة، وسلطان الأمة، وحقوق وواجبات الحكام والمحكومين. لا يتقيّد خطابهم بالحدود القطرية، ولا بالخصائص القومية لشعب من الشعوب، ولا بتطلّعات الدنيوية لشعب ما، بل يتقيد بمهمّة الأمة، وبخصائصها الأخلاقية، وبمسعاها الأخروي. ولتحقيق مهمّتها، لا بد للأمة أن تُحكَم من قبل شخص يعمل بصفة النائب (ومن هنا جاء لقب الخليفة) عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما دام هو قائم بإدارة شؤون الأمة.

استرجاعاً للتعريف المتَّفق عليه من قِبل العلماء قاطبة: فالخلافة هي نيابة النبي صلى الله عليه وسلّم في إدارة شؤون أمته بحراسة دينها وسياسة شؤونها الدنيوية.7

لغوياًّ، تشير كلمة «أمة» إلى جماعة أو مجتمع لديه غاية أو قصد،8 والتي يقودها إمام. ومن الجدير بالذكر أن كلمتي «الإمام» و«أمير المؤمنين» هما مرادفان شائعان لكلمة «الخليفة».9

بصرف النظر عن عَلْمَنَتها المتكررة في عصر الوطنية والدولة القومية، لا تشير مفاهيم رئيسية في الخطاب الإسلامي مثل «أمة» و«ملة» (أو «أُمَّت» و«ملَّت» بلغات سوى العربية) إلى أوطان قُطْرِيَّة، كالوطن الباكستاني، أو المصري، أو السعودي، أو النيجيري، أو الماليزي، ولا إلى البشرية ككل، ولا إلى شعوب الشرق، ولا إلى كافة الشعوب المستضعفة أو المستعمرة في العالم أو في الجنوب العالمي، بل تشير إلى الأمة الإسلامية؛ أي إلى المجتمع الذي يتألف من كل أولئك الذين ينطقون بالشهادتين. لذلك، فإن استعادة لغتنا أمر في غاية الأهمية لأن العديد من الدول القطرية ذات الأغلبية المسلمة اليوم كيانات أورويلية، تحكمها عصابات صغيرة من النخب التي لا وفاء لديها سوى لمصلحتها الشخصية ولمصلحة رعاتها وسادتها الغربيين.

وقد حاولت هذه النخب خلال القرن الماضي إحباط المسلمين، وغسل أدمغتهم، ونزع هويتهم الإسلامية، أحياناً بشكل مباشر من خلال ارتكاب المجازر بحقنا وبحق علمائنا وقادتنا، وفي أحيانٍ أخرى من خلال إفساد المعرفة الدينية لجماهير المسلمين وإفساد ثقافتهم ومعنوياتهم عن طريق استيراد الأيديولوجيات الأجنبية، وإخضاع مؤسساتنا، وتشويه معتقداتنا، وبشكل أكثر خفاءاً، عن طريق محاولة تغيير ذات اللغة أو النص المكتوب بشكل كامل من خلال إعادة كتابة معاني المعتقدات والمفاهيم الإسلامية الرئيسية.10 قد كان أعظم سلاح لدى العدوّ—أي، أيُّ شخص يتمنى تحطيم معنويات المسلمين ورغبتهم في الحياة والازدهار كمسلمين—تجنيد العلماء والمثقفين أنفسهم، أو تحطيم معنوياتهم بحيث يكونون، حتى وهم يعيشون في عالم تجوب فيه أمم أخرى القمر وتسعى الآن للوصول إلى النجوم، مرعوبين من التفكير والتطلع إلى أدنى حقوقهم وحرياتهم الأساسية، مُكْرَهين لأن يصبحوا، كما يقول المثل الياباني، ضفادع في بئر مُنكِرين لوجود البحر. على الرغم من ذلك، بمشيئة الله وبفضل أشجع علمائنا، وقادتنا، وشهدائنا، وطيف متنوع من حركات المؤمنين الذين خاضوا كفاحاً بطولياًّ لحراسة الدين وإحيائه وتجديده، فإن العدو رغم ربحه لبعض المعارك، إلا أنه من المؤكد خسارته للحرب. ويستمر الجهاد الأمتيّ المبارك.

يرجى التنويه بأنه، من جانب، فإن محلّ اهتمام الأمتيّة بخلاف السياسة المدنية العلمانية لا يكمن في مجرد إدارة الموارد وإعادة توزيعها، بل يكمن في إقامة الدين وعمارة الأرض، وإدارة العلاقات الداخلية بين المسلمين والسعي في سبيل التآلف، والوحدة، والاتحاد، وإقرار العدل والازدهار للناس كافة بطريقة تفي بالأمر الربَّاني. من ناحية التخصصية تتضمن الأمتيّة عدّة جوانب من أدبيات العقيدة الإسلامية، والفقه، والأخلاق، وبالسرديات الإسلامية المتعلق بالقضايا الجماعية للمسلمين كمسلمين. يشمل ذلك مضامين مجالات المعرفة التراثية كالأحكام السلطانية (التشريعات الربّانيّة المتعلقة بالحكم) والسياسة الشرعية (الحكم وفقاً للشريعة الربّانيّة)، ولكن أيضاً التخصصات الحديثة مثل العلوم السياسة، والاجتماعية، والإنسانية.

من جانب آخر، فإن الأمتيّة لا تُبطل السياسة المعروفة اليوم ولا تمنع منها، بل تقوم فقط بضبطها وإعادة توجيهها، بنفس الطريقة التي لا يبطل المفهوم الإسلامي للزواج المفاهيم الوضعية، والمحلية، والعادات الثقافية المتعلقة بالزواج، بل يمنحها صورةً محدَّدةً وغرضاً محدَّداً. وبالتالي، فرغم عدم تقيُّد التضامن الأمتيّ بالحدود القطرية، إلا أنه لا ينكر الأهمية الدلالية للتنوع بين الشعوب، والثقافات، والعادات والتقاليد، والممارسات، والأماكن. لا يجب أن تكون العالمية الأمتيّة لعبة صفرية المحصِّلة في مقابل الانتماءات المحلية والخصوصية؛ فإن الإسلام يحتفي ببعض أنواع الاختلاف، ويهوِّن من أنواع أخرى، ويصدّ عن أنواع أخرى، ويحظر بعضها.

بمجرد تقرير مبدأ الهوية الأمتيّة بشكل دقيق باعتباره الأساس، يمكن القيام بالمقارنة، والتباين، والتعلُّم من الخبرة الخارجية بقدر أكبر من القصديّة، والحوطة، والعزم. بالطبع، يمكن للمسلمين الإسهام في السياسة المدنية (أي حسن الضبط والإدارة) للمجتمعات والكيانات السياسية التي يعيشون فيها، حيث قد يتضمن جيرانهم غير المسلمين، سواء كانوا في الأراضي الإسلامية أو كأقليات في غيرها. ولكن، باعتبارهم أعضاءً في الأمة، فإن انتمائهم الأول والأهم هو لأمة الإسلام، وبالتالي، ستكون سياستهم مستوحاة من الأمتيّة ومقيدة بها، باعتبارها أمراً تكليفياًّ شرعياًّ.

 

الأسس النصيّة

تمامًا كما أن الفقه الإسلامي يمثل استجابة المؤمنين التاريخية للأوامر الربَّانية العملية، وأصول الدين أو علم الكلام يمثل استجابتهم التاريخية لحتمية التوفيق بين العقل والنقل في سبيل معرفة الله، والأخلاق والأدب والمعارف الروحية (التزكية، والسلوك، والتصوّف) تمثل استجابتهم التاريخية لمهمّة اكتساب الفضائل الشخصية والحالات الروحية العليا، كذلك يمكن فهم الأمتيّة باعتبارها استجابة المؤمنين التاريخية للأمر الربّاني بأن يكونوا أمةً مؤمنةً موحدةً نموذجية ذات مهمّة. وهذا يؤدِّي بنا إلى الآيات القرآنية الأساسية والدستورية التي تحكم تشكيل الأمة ووجهتها:

١. آيتنا الأولى تُعلن بأنّ الأمة المحمدية أمة عادلة وشاهدةُ عدلٍ ينبغي عليها حمل الرسالة النبوية للبشرية: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا  لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.11

٢. الآية التالية مكمِّلةٌ ومضيفة عمقاً أبعد إلى معنى الآية الأولى، مكرِّمةً الأمة باعتبارها خيرَ أمةٍ والتي تدعو الآخرين إلى ما هو خير، مسلِّطةٌ الضوء على ذات الزوج من التكريم والمهمَّة: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾.12

٣. لا يكرمنا الله سبحانه وتعالى فقط باعتبارنا الأمة ذات التحدي بأن نكون وكلاء نبويين، بل يأمرنا بالقيام بذلك حالَ تمسّكنا بحبل الله جميعاً: ﴿وٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾.13

٤. وبشكل أكثر صرامةً: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.14

٥. آيةٌ أخرى تُعلن أنّ المؤمنين جماعة أخوية، يلزمهم بذل الهمّة في العناية بأُخُوَّتِهِم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾. 15

٦. بينما تحذّر آيةٌ أخرى من وقوع شقاوة عظمى إذا ما لم يتّحد المؤمنون: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِى ٱلْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾. 16

تقرر الآيتان الجليلتان الأوليان عدة نقاط رئيسية: أمة محمد صلى الله عليه وسلّم، المخاطبةُ بالقرآن، هي خيرُ أمة، وهي أمةٌ معتدلة الاتّزان، وشرطُ هذا الامتياز ليس أصلهم العرقي، ولا نسبهم، ولا مجرد حظهم، بل كونهم يدعون إلى الله، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولذلك فإن مهمَّتهم الوقوف كشهداء للّه أمام البشرية، تمامًا كما وقف الرسول صلى الله عليه وسلّم أمامهم شهيداً عليهم، داعياً إياهم إلى الله، ومحذراً إياهم منه سبحانه.17 وبالتالي، فإن المهمة الأمتيّة انعكاس وامتداد للمنصب النبوي.

تعزز هاتان الآيتان التقرير بأن رؤية الإسلام في القرآن تتمركز حول الأمة، أي أنها رؤية «أمتيّة»، حيث إنّ الأمة ترث المهمّة النبوية، وليس أي شخص، ولا عائلة، ولا عرق، ولا قبيلة، ولا إثنية، ولا أيّة مؤسسة دينية. إنّ الأمة ككل هي المأمورة بتعيين وطاعة ولي أمر ﴿مِنكُمۡ﴾ (النساء: ٥٩) للسعي في سبيل تلك المهمة. تعلن هاتان الآيتان أن الأمة وكيلة فاعلة للّه في الأرض، بدلاً من كونها مُتَلَقِّيَة خامدة للعمل أو الإملاء.

علاوة على ذلك، فكونها أمةً خيِّرةً في ذاتها وتدعو غيرها إلى الخير يُحَتِّم فرض نوعين من التكليف: أحدهما يتعلق بفضيلة الأمة داخلياً، والآخر يتعلق بالعمل الجماعي الخارجي الموجَّه نحو العالم. تتطلب الوظيفة الأولى التحلّي بصفة التقّوى، ومحبّة الله وطاعته، وتصحيح وتذكير بعضهم البعض، في حين تتطلب الوظيفة الأخرى التنظيم الجماعي تحت قيادة فعّالة للقيام بالمهمَّة النبوية. في حال تكليف مجموعة من الأفراد ذوي الإرادات المستقلة بفرض كفائي، يلزمها توزيع مواردها ومسؤولياتها، وهذه المهمَّة، كما سبقت الإشارة إليها، هي مهمَّة السياسة، أو بالنسبة لنا، هي مهمَّة الأمتيّة. وإذا كانت غاية الأمة ليست مجرد البقاء أو الوجود الخامد، بل القيام بمهمَّة فاعلة تجاه العالم، فإن الجانب السياسي سيكون أكثر بروزاً، حيث يلزم تلك المجموعة السعي لكي تصبح كياناً مستقلاً ذا سلطة خُلُقِيَّة وقوة تأديبية على حد سواء. أو بعبارة أخرى، فإن «المهمة النبوية» للأمة لها جانبين: يتطلب الطابع النبوي الداخلي سمات مثل التقوى، والنقد الذاتي، والنزاهة، والخُلُق، بينما تتطلب مهمَّتها النبوية الخارجية فضائل مثل العمل، والوحدة، والتضامن، والشجاعة، والعزم، والفطنة السياسية.

الآيات الثلاث التالية في قائمتنا (آل عمران: ١٠٣؛ آل عمران: ١٠٥؛ الحجرات: ١٠) لا تشدد فقط على أنّ التضامن بين المؤمنين هو أمر متطلَّب لتأدية المهمة، بل أيضاً على كونه عملية تفاعلية. القيام بتنفيذ مهمَّة مشتركة يولِّد ظروفاً للتعاون ومناسبات للاحتكاك والتصادم في ذات الوقت، وبالتالي فإنه يتطلَّب نزوعاً دائماً تجاه الوفاق الداخلي الهادف، وتحقيق السلام، والعدل. في هذا الصدد، فإن تشبيه المؤمنين بالإخوة مفيد على وجه التحديد، فالإخوة متَّحِدون بنَسَبهم، من خلال مشاركتهم لأحد الوالدين أو كليهما، تماماً كما يجتمع المؤمنون بالشهادتين. ومع ذلك، يمتلك الإخوة شخصيات مختلفة، وعملية تحقيقهم لذواتهم كأفراد بحد ذاتها ونموهم إلى سن البلوغ عملية صراعية «agonistic process»، مما يقود الإخوة ليس فقط إلى محبَّة وتأييد بعضهم البعض، واللعب ومشاركة الموارد مع بعضهم البعض، بل أيضاً في بعض الأحيان إلى تحدي وإزعاج بعضهم البعض، والنزاع والتنافس، يختبرون بذلك حدودهم، وبالتالي يتعلَّمون كيفية التعامل مع العالم بشكل عام.

حتى عندما يقوم بعض المؤمنين، مثل بعض الإخوة، بتعدِّي حدود الأذى المطاق والتسبُّب في أذىً بالغ أو إحداث الشرّ، فالقرآن لا يزال يدعوهم بمسمَّيَي المؤمنين والإخوة وفي ذات الآن يأمرهم أيضاً بعلاج تفاعليّ: الانضمام إلى الطائفة العادلة من بينهما ضد الطائفة الظالمة، ولكن دوماً لغرض السلام والتوفيق الآتيَيْن: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ;﴾.18 وهكذا يذكِّرنا سبحانه وتعالى بضرورة تحقيق السلام بين المسلمين باستمرار، وترقُّب التوترات وتوقُّعها بدلاً من التثبُّط منها، ويحثنا على التعامل مع التضامن بين المؤمنين، ليس كمجرد واقع معطى بل أيضاً كواجب وكعملية توحيد وتآلف. وبالتالي، فأولئك الذين يشيرون إلى الخصومات والنزاعات المتكرِّرة بين المسلمين في الحاضر أو في الماضي كالمبرِّر للقنوط أو للاستسلام للوضع الراهن ليسوا فقط مخطئين، بل غافلين عن هذا الأمر الربّاني.

 ترفع الآية الأخيرة (الأنفال: ٧٣) مستوى الرهان إلى حدٍّ أبعد، مع التوضيح أيضاً لطبيعة الوحدة المطلوبة: إذا لم تتحدوا، وترصُّوا الصفوف، وتشكِّلوا تحالفاً قوياً، فستواجهون وسيواجه العالم بأسره أذىً عظيماً. أعداء الدين—وللحَقّ أعداء دائماً—سيتولَّون بعضهم البعض ضدّ الدين، والمؤمنون مأمورون بإبداء تضامن أقوى من ذلك. لاحظ بأن هذه الآية المدنيّة التي أُنزلت بمناسبة غزوة بدر تدعو إلى تضامن شامل، في الحرب وفي السِلم، وفي السياسة وما دونها، فالحرب هي أكثر الأعمال الإنسانية شمولاً. علاوة على ذلك، فإن لفظ الآية عامّ ومطلقّ، مما يلزم المؤمنين بتأسيس تضامن شامل ومحذِّراً إياهم من أنه إذا ما فشل المسلمون في تأسيسه، فسينجم عن ذلك فساد كبير في الأرض وسفك للدماء. لا يكمن غرض هكذا تضامن في مجرد حماية أنفسهم، بل أيضاً في حماية الأديان والأمم الأخرى: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.19

ولهذه الإلحاحات الربّانية تُعطي كلمات النبي صلى الله عليه وسلّم تعبيراً في غاية الشجو والعاطفية من خلال مَثَل الجسد الواحد: «مَثَل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مَثَل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحُمَّى».20

التقديم الموجز للأوامر القرآنية بالمهمَّة المتميِّزة للأمة وبالوحدة باعتبارها الشرط اللازم لتحقيق تلك المهمة يقودنا إلى الواجبات والوظائف المترابطة التالية التي تندرج تحت ما أطلقنا عليه مسمّى الأمتيّة.

لا بد للأمتيّة أن تبدأ بتوفير مساحة مفاهيمية لوجود الأمة وعملها الجماعيَّيْن، مما يتطلَّب دراسة منظمة لعدَّة مجالات.

١. تنظير السياسة الإسلامية بالمعنى الدقيق للعبارة، أي السياسة الشرعية، بروح القيم الإسلامية، وبالتفاعل مع التراث الإسلامي ومجاميع المعارف الإنسانية التاريخية والمعاصرة، ومع توخي الحذر ضدّ تشويه المفاهيم الإسلامية. لذلك، تتطلب الأمتيّة تصوّر الأهداف والسياسات مفاهيمياً والسعي في سبيلها على المستويَيْن المحلي والعالمي، بما يخدم المصالح العامة للمسلمين والإنسانية بوجه عام. إنّ جوهر التضامن الشامل بين المؤمنين يتمثل في الوحدة السياسيةلمجتمعات المسلمة على اختلاف مناطقها وثقافاتها ولغاتها وأنظمتها الإدارية، مما يتطلَّب تصميماً مؤسسياً ومنهجاً لحل المشاكل يتميّزان بالدِّقَّة والمرونة. علاوة على ذلك، يتطلب الحكومة الحديثة خبرة فنِّيَّة ومهارة هائلتين، والتي يتشارك فيها كافة البشر، بالإضافة إلى عمليات دائمة ومعقدة لصنع القرار تتميّز بالخُلُقِيَّة والغائية، مما تتطلَّب معرفة عميقة ومنهجية للقيم والمقاصد الإسلامية، والمسائل المتفق عليها والمختلف فيها بين العلماء.

٢. لا بدّ لنا من تجنُّب المواقف الشائعة التي تتّصف بالسذاجة فيما يخصّ العلاقة بين السياسة والقيم الإسلامية، أحدها الدعوى بأن السياسة كلها مجرد قرارات تكنوقراطية (مثل تقرير حدود سرعة القيادة أو تركيب الحنفيات)، والآخر الدعوى بأن الحكم برمّته خُلُقيّ ويمكن قراءته في الوحي أو في نصوص التراث. ابتداءً من التقنية، والهندسة المعمارية، والتخطيط العمراني، والإدارة البلدية، وحماية البيئة، وانتهاءً إلى إعادة توزيع الثروة، ورعاية الفضيلة العامة، وصون الأماكن المقدسة، وإدارة الشعائر العامة، والدفاع، والسياسة الخارجية، كلها تحمل أبعاداً شرعية وخُلُقيّة إسلامية عميقة بصورٍ ودرجاتٍ متفاوتة. يتطلَّب التنفيذ السليم لكل منها مستوىً اختصاصياً من المعارف الإسلامية ومن تنمية الفضيلة والتقوى، بالإضافة إلى إتاحة أفضل الممارسات والحلول على مستوى العالم، خاصة تلك القادمة من المناطق الأمتيّة الأخرى (أي المعرفة الأمتيّة الداخلية بالإضافة إلى المعرفة العالمية)، وأخيرًا، معرفة محلية عميقة بالظروف والتقاليد الخاصة بالقرية، أو المدينة، أو المنطقة التي يتم تطبيقها فيها. يسعى الخطاب الأمتيّ لإنتاج، وتطوير، وتشجيع، وتقنين هذه المعرفة

٣. السعي في سبيل تنفيذ رؤية الإسلام الأصلية المتمركزة حول الأمة من خلال إحياء الخلافة كمؤسسة قابلة للمحاسبة ومتَّصِفة بالتطلُّع إلى المستقبل. الحكم الإسلامي الموحِّد لجميع المناطق ذات الأغلبية المسلمة، والمعنيّ برفاهية الأمة وفقاً للشريعة والقيم الإسلامية، هو واجب شرعي أساسي بالإجماع المطلق لعلماء المسلمين عبر القرون والمذاهب. ومع ذلك، فقد طرأت العديد من التعديلات غير المُثلَى على تطبيقها في كلٍّ من تجلياتها التاريخية، وقد تكدّست السلطة والثروة في بعض الأحيان في أيدي القلَّة دون الحدّ المطلوب من المحاسبة، مما أدّى في كثير من الأحيان إلى الفساد، والانقسام، والتفكّك الكلّي بعد حين. ومن المتحتّم علينا العودة إلى الرؤية الصحيحة للخلافة المتمركزة حول الأمة كما يعبِّر عنها القرآن والسنَّة وكما مارسها الخلفاء الراشدون، وذلك دون الوقوع في المغالطة—والتي تتناقض مع الأمل الباعث على التغيير والعمل الإيماني اللذان يطغيان على الرسالة القرآنية—القائلة بأنه لم يتبقَّ للأمة الآن سوى الانحطاط الأبدي والمعاناة الخامدة حتى ظهور المهدي. ولا يلزمنا الاقتصار على التشكيلات السياسية المتكوِّنة في الماضي: فقد اتخذت مؤسسة الخلافة التاريخية عدة أشكال،21 وقد طرحت ظروف ما قبل الحداثة تحدِّيات هائلة للإدارة الموحَّدة للأراضي الشاسعة والمتوسِّعة، وكثيراً ما فرضت القبول بالمساومات. تسمح لنا أهم التطوُّرات التقنية، والاجتماعية، والسياسية اليوم بتجاوز العديد من هذه التحدِّيات وتمكين المجتمع مجدَّداً من انتخاب ولاة الأمور ومحاسبتهم بصرامة.

٤. السعي خطابياً وعملياً في سبيل وحدة الأمة وتوحيدها الشاملين من خلال التخفيف المنهجي من أوجه الظلم واللامساواة. وهذا يعني التضامن ليس فقط على الصعيد السياسي بل أيضاً على الأصعدة الروحية، والاجتماعية، والاقتصادية، والذي يضبطه متطلَّبات المهمّة النبوية التي يكون المسلمون فيها جميعاً سواسية والتفاضل يتم فقط على أساس التقوى والكفاءة. كما أشار إليها الصدِّيق رضي الله عنه في خطبته الأولى، فإن حماية ضعفاء الأمة من أقويائها من المهمّات المميِّزة للحكم الإسلامي.22 يتطلب هذا المسعى دراسة وتطوير نهج متعدد الجوانب. ويشمل هذا إعداد الرأي العام للمسلمين على كافة المستويات وفي مختلف المناطق، وإدراك أسباب الفُرقة وعدم الثقة المتبادلَين ومعالجتها، والتصدّي للشكاوى من خلال آليات استصحاحية، خاصة تلك التي تستند إلى الالتزام المشترك بالدِّين الإسلامي والحضارة الإسلامية. كما أن التقسيمات القائمة على الاعتبارات الاقتصادية، أو الجماعية، أو الطائفية ستتطلب التصدّي للأسباب الجذرية لها وتبني نهج تسامحي واستصحاحي يستند إلى مبادئ الإسلام المشتركة. ولا بدّ من التحرّي المستمر للقومية، والعِرقية، والتمييز على أساس لون البشرة، والعنصرية، وكافة صور الأفكار والممارسات التمييزية التي تعارض مبدأ الجدارة الإسلامي، والتي تعاود الظهور بصور جديدة، والمثابرة في استئصالها. وينبغي التنويه بأن الجانب الوصفي  «descriptive»أو العلمي-الاجتماعي «social-scientific» للأمتيّة، مستلهماً من نوع الملاحظات التي دوّنها ابن خلدون، يقرّ بأن الانقسامات والاختلافات بين البشر لا يمكن القضاء عليها بالكامل، حيث تظهر انقسامات واختلافات جديدة باستمرار من جراء غرائز الإنسان الطبيعية، ولذلك تحثنا الأمتيّة المعياريّة «normative» على السعي المستمر في سبيل التخفيف والشفاء بالطرق المشروعة في الإسلام بدلاً من تمنِّي التمام الطوباوي.

٥. الارتقاء بالخطاب الإسلامي حول إدارة التنوُّع بدلاً من فرض التجانس. وهذا يعني إدراك التنوُّع الحتمي في الأمة وإقراره، ودراسة مصادره وأسبابه، واحترام الاختلافات التي لا تشكِّل تهديداً والحدّ من تلك التي تشكِّل هكذا تهديد، بما في ذلك الانقسامات الطائفية، والاجتماعية، والطبقية، والعرقية، والتقليل من الفُرقة. وهذا لا يمنع من الجدال بشغف لصالح آرائنا العَقَدية، والفقهية، أو ما سواهما ضمن حدود الإسلام الواسعة. قد لعب الصراع الطائفي دوراً كبيراً في إضعاف المسيحية باعتبارها قوة اجتماعية وصعود العلمانية في أوروبا، ويشكِّل تهديداً مماثلاً في خطورته للعالم الإسلامي اليوم. فيما يخص الفوارق العَقَدية، فقد شهدت الحضارة الإسلامية نماذج استثنائيةَ النجاحِ للتسامح في بعض المجالات الرئيسية، مثل التعددية التشريعية والقضائية بين مذاهب أهل السنة، وحماية الشريعة للمجتمعات غير المسلمة. لا يتطلب هكذا تسامح وتعايش بين المسلمين التخلِّي عن السعي في سبيل الحق والدفاع عنه، بل وضعُ الاختلافات في محلِّها الصحيح. لا يشمل هذا فقط التمييز بين الاختلاف العَقَديّ المعتبر وغير المعتبر والاختلاف السياسي ذي الأهمية الدلالية وغير ذي الأهمية، بل أيضاً الإقرار بأن الأصول التي تشدّ وثاق الأمة، رغم قلّتها النسبي عدداً، هي أشدُّ قوةً من الاختلافات في الفروع. والأمر التكليفي الأمتيّ يلزمنا بدراسة حالات التعايش الناجحة بين المسلمين، وجعْلها حكمة عامة بين المسلمين، والعمل على تأمين شروطها، وبالتالي إحيائها.

٦. تقديم أولوية الضعفاء والمستضعفين من المسلمين على مستوى العالم، الأمر الذي هو ضروري لتجسيد التشبيه النبوي للأمة بالجسد. يتطلَّب هذا، كخطوة أولى، إنتاج معرفة دقيقة ومستجدَّة عن محنة ضعفائنا ﴿ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ﴾ [النساء: ٧٥]، وتطوير الدراسة الفاعلة والمنضبطة للتهديدات الحالية والمستقبلية التي تواجه الأراضي الإسلامية والأماكن المقدَّسة. وما زالت القضايا الأمتيّة المحورية مثل فلسطين، وكشمير، وتركستان الشرقية، والروهينغيا، على سبيل المثال لا الحصر، بلا حلّ وتبدو ميؤوس منها بالتحديد لأنه قد تم عَلْمَنَتها، وفصلها عن الأمة، وحصرها مكانياً بأفق ضيق، مما أدّى إلى الإهمال العام أو في أحسن الأحوال الاهتمام غير المنتظم وغير المستدام. من الضرورة أن تصبح كل هكذا حالات، وأسبابها الجذرية، وتاريخها، والخطاب حول حلولها جزءً من أخبار المسلمين اليومية ومناهجهم في كل مكان، حتى نتمكّن من الشعور، والتخطيط، والاستجابة، كما كلَّفنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارنا مؤمنين.

٧. الارتقاء بالخطاب حول مواجهة التحدِّيات الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، والتقنية الرئيسية التي باتت محوريَّة لتشكيل الرؤية لعالمٍ إسلامي موحَّد ومزدهر. التصدّي للتحديات من قبيل التغيُّر المناخي «climate change»، وتسخير الفرص بمسؤولية مثل تلك التي يقدِّمها صعود الذكاء الاصطناعي، وإثبات قدرة النماذج الإسلامية، مثل الاقتصاد غير الربوي، على الإفضاء إلى نتائج أقسط، هي أمور حاسمة، ليس فقط لأنها تؤثِّر على المسلمين بطرق ذي أهمية دلالية ولأن ازدهار العالم الإسلامي يتطلَّب ذلك، بل أيضاً لأنه يمتنع علينا الاستجابة للأمر التكليفي الأمتيّ بأن نكون شهداء على الناس دون القيادة في هذه المجالات.

٨. تنظيم العلاقات الأمتيّة مع العالم أجمع، التزاماً بالمهمّة الأمتيّة للدعوة إلى الإسلام وضمان رفاهية المسلمين على مستوى العالم، مع السعي في سبيل تحقيق التعايش بين الحضارات والمناطق وحلّ التحديات المشتركة التي تواجه البشرية على الصعيدَين المادي والبيئي وغيرهما.

 

خاتمة: البدء بالنصيحة

قد يتساءل أحد: مَن الذي ينبغي عليه القيام بكل هذا؟ ألا تفترض جميع هذه الوظائف وجود كيان موحد وقوي، مثل الدولة؟

الحكومة الفعّالة التي تمثِّل كافة المسلمين بصورة متجاوبة وقابلة للمساءلة هي بكل تأكيد ضرورة لرعاية الأمة، إلى جانب كونها واجباً شرعياً بحد ذاتها. والسلطة السياسية ضرورية لصون سيادة الشريعة الإسلامية ولدفع العدوان. ومع ذلك، ورغم ضرورتها، إلا أن القوة ليست شرطاً كافياً لمعظم هذه الوظائف، ولا هي نقطة الانطلاق لها. إن من النهج النبوي البدء أولاً بتصحيح المعتقدات والمواقف السلوكية قبل التوجه إلى السلطة. على سبيل المثال، تخيَّلْ وقوع الخلافة في أيدي شخصية أو مجموعة طاغية، أو مهمِلة، أو انتهازية، أو خائنة تغدر لصالح قوى أجنبية. حتى الحكام الصالحين، كالعلماء والمشايخ الصالحين، يغريهم انتهاك سلطتهم إذا ما لم يتم مراقبتهم ومحاسبتهم. بكل وضوح، فإن الأمة اليقِظة والمؤسسات المتينة ضروريتان لضمان الحكم الراشد. يجب على الأمة أن تكون مستعدَّة للمطالبة بحقوقها مع احترام حقوق أئمتها، وعلمائها، وحكامها، فضلاً عن حقوق عامة المؤمنين على كافة المستويات، كما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم: «الدِّين النصيحة…للّه ولكتابِهِ ولرسولِهِ ولأئمّةِ المسلمين وعامّتِهِم».23

إن أولويّة الحقّ والواجب المتأصلة في النصيحة، بدلاً من شعار الحقوق الفردية العلماني الليبرالي، هي الإطار الصحيح لترسيخ الحقوق والواجبات الأمتيّة. لقد أعدّ النبي عليه الصلاة والسلام أمّتَه الناشئة لهذه النصيحة لفترة طويلة قبل مُنح السلطة للأمة في المدينة. دون أن نقع في المغالطة المعاكِسَة التي تُلزِمنا بأن نصبح جميعاً كاملي الفضيلة قبل ارتجاء حُكمٍ أفضل، يدعو موقفنا الوسطي إلى تكوين خطاب وتطبيق عملي فكري واجتماعي-سياسي هادف وفضيل يمكنهما أن يخدما كالأساس للممارسة الفاضلة للسلطة ولمحاسبة تلك السلطة في آن واحد.

فمِن المهم أن نلاحظ أنّ الأمتيّة كخطابٍ ضروريةٌ بغضّ النظر عن وجود الخلافة، تماماً كما أن الفقه والعقيدة كخطابين ضروريَّتان قبل ظهور طائفة من المؤمنين الصالحين وبعد ظهورها على حد سواء. ولئن وُجدت الخلافة غداً، فلن نكون أقلّ حاجة إلى وجود خطاب أمتيّ.

إذاً، فمن عليه تطوير المعرفة الأمتيّة والقيام بالعمل الأمتيّ؟ لا يقع التكليف على فرد أو مؤسَّسة بعينها، بل على كل أولئك الذين لديهم الموارد اللازمة للمساهمة بذلك في الأمة. تتناسب مسؤوليتنا مع مدى قدرتنا على تسخير الموارد، ونظراً إلى توفُّر قدر يكاد لا ينتهي من الموارد اليوم لبعض المسلمين في حين يقبع معظمهم في بؤس وفقر ساحقَين، فالقِلَّة القادرة على مواجهة التحدّي يلزمهم القيام بذلك.

نطرح الأمتيّة باعتبارها المفهوم الذي يشمل الخطاب، والتخصّصـ(ـات) الأكاديمية، ومجال العام للمسلمين عالمياً الذي يتصدّى لهذه التحديات بشكل منهجي. تهدف مؤسسة أمّتكس إلى أن تكون مبادرة واحدة ضمن ما نأملها أن تكون عدة هكذا مبادرات والتي تمكِّن الفكر والممارسة الأمتيّتَين.

 

*          *          *

 

الاقتباس المقترحة:

عويمر أنجم، «ما هي الأمتية؟»، ترجمة محمد السيد بشرى، أمّتكس، ١٠ أبريل ٢٠٢٥، https://ar.ummatics.org/what-is-ummatics

هوامش

  1. مسألة ترجمةِ مصطلحِ «ummatics» إلى اللغة العربية تقتضي النظر في عناصر عدّة. وقد اخترنا اعتماد «أُمَّتِيَّة» بدلاً من الخياراتِ الأخرى—أبرزها «أُمِّيَّة» و«أُمَمِيَّة»—لعدّة وجوه. فإنَّ اسم النسبة القياسيّة لكلمة «أُمَّة» هي «أمِّيّ»، كسُنّة وسُنِّيّ، ومَكّة ومَكِّيّ. وبالتالي فإنَّ المصدر الصِناعيّ القياسيّ لكلمة «أمّة» هو «أمِّيَّة». غيرَ أنَّ لفظ «أميّة» يُحيل إلى عدم معرفة القراءة والكتابة كما هو شائع، مما يجعل هذا الخيار غيرَ مناسب لهذا السياق. أما خيار «أمميّة» فهو يعاني من مشكلتين: الأولى أنّه ترجم في العربية إلى «internationalism»، وارتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياق الماركسي من جانب، والسياق الليبرالي من جانب آخر (في سياق الأمم المتحدة مثلا).  والمشكلة الثانية أنّه ليس نسبة صحيحة صرفياً لـ «أمّة» بل هو نسبة لـ «أُمَم». وبذلك لم يبقَ إلا اختيارُ لفظ «أمّتية»، وهو وإنْ لم يكن صيغةً قياسيةً صرفيّاً، إلا أنَّه سائغ لغوياً. فإنّ زيادة التاء جائزة لتجنّب الاشتراك (مثل ما زادوا الزاي في النسبة إلى رَيّ في «الرازي»، أو الياء في «المَدِيني» نسبةً إلى مدينة بغداد لتمييزها عن المَدَني). وعلاوةً على ذلك، فإنَّ لفظ «أمّتية» بوصفه مصطلحًا مستحدثًا لا يحمل أعباء المعاني السابقة، ممّا يجعلُه أنسبَ لهذا المشروع الذي يسعى إلى ابتكارِ آفاقٍ خطابيةٍ جديدة. وأمّا خيار التعريب، أي اختيار «أمَّتِكس» فإنَّه يشترك في ميزة الخلوِّ من الدلالات السابقة، لكنه أكثرُ غرابةً وثقلًا على اللسان والذوق العربيِّ مقارنةً بـ «أمّتية». لهذه الأسباب، قررنا ونطلب من الآخرين عند الكتابة باللغة العربية ترجمة مصطلح «ummatics» إلى «أمّتية» عند استعماله كاسم، وترجمة «ummatic» إلى «أمّتيّ» أو «أمّتية» عند استعماله كصفة لموصوف مذكر أو مؤنث على الترتيب. أمّا «Ummatics Institute»، فيُترجم إلى «مؤسسة أُمَّتِكس» باعتبار كونه عَلماً على مؤسسة يُفضّل اتساقه عبر اللغات.
  2. الأنبياء: ٩٢، والمؤمنون: ٥٢.
  3. آل عمران: ١١٠؛ البقرة: ١٤٣؛ آل عمران: ١٠٣.
  4. تُستَنبط هذه العبارات من الحديث النبوي الشريف. يظهر جذر مصطلح ومفهوم «السياسة» في صحيح البخاري: «كانت بنو إسرائيل تَسُوسُهم الأنبياء» (٣٤٥٥). أما مفهوم «أمر المسلمين» ذو الصلة (أي شؤونهم العامة) فهو أكثر تكراراً: «مَن لم يَهْتَمَّ بأمر المسلمين فليس منهم» (أخرجها البيهقي وغيره وهو ضعيف روايةً ولكن معناه صحيح يرِد في العديد من الروايات الصحيحة). عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم يَسْمُرُ مع أبي بكرٍ في الأمرِ من أمر المسلمين وأنا معهما» (رواه الترمذي (١٦٩) وحسنه؛ وأحمد (٢٢٨) وصححه الأرنؤوط). تَعتبر الرواية المعروفة، المُستَشهَد بها في نهاية هذا المقال، الإخلاصَ تجاه عامة المسلمين جزءاً من جوهر الدين (مسلم ٥٥، الدِّين النصيحة…). وفي رواية أخرى، كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعو قائلاً: «اللَّهُمَّ مَن وَلِيَ من أمر أُمَّتي شيئًا فشَقَّ عليهم، فاشْقُقْ عليه، ومن ولي من أمر أُمَّتي شيئًا فرَفَقَ بهم، فارْفُقْ به» (مسلم، ١٨٢٨). وقد حذَّر الرسولُ صلى الله عليه وسلّم بشدة مِن مفارقةِ أُمَّةِ المسلمين أو محاربتها (مسلم، ١٨٤٨؛ مَن خرج مِن الطَّاعة…ومن خرج على أمتي)، وكثيرًا ما تحدَّث صلى الله عليه وسلّم عما يُحِبُّه أو يَخْشاه لأُمَّتِه؛ على سبيل المثال: «إِنّما أخاف (أو أَخْوَفُ ما أخاف) على أمّتي الأئِمَّةَ المُضِلِّينَ … لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ ظاهرين لا يضرّهم من يَخذلهم حتى يأتي أمر اللّه» (الترمذي، ٢٢٢٩).
  5. تم استخدام مصطلح «ummatic» بشكل عرضي من قبل المسلمين الذين يكتبون باللغة الإنجليزية للإشارة إلى نفس المفهوم تقريباً، مع أنني لم أقف على أيّ تنظير مستدام للمصطلح كما يتم محاولته هنا. انظر، على سبيل المثال، مع الملاحظة ألا يقوم أحد من الكاتبَين بتطوير المفهوم سوى استخدامه اللغوي كصفة:

    Ataullah Siddiqui, “Ismail Raji al-Faruqi: From ʿUrubah to Ummatic Concerns,” American Journal of Islamic Social Sciences 16, no.3 (1999): 1-26; and Masudul Alam Choudhury, The Islamic World-System: A Study in Polity-Market Interaction(London: Routledge, 2005).

  6. بينما يمكن فهم «السياسة» بالمفهوم الواسع باعتبارها إدارة شؤون أيّة أمة من الأمم، يوجد اعتبار معياري أعمق للمفهوم. بالنسبة لأرسطو، تميّزت البولِس (polis) عن غيرها من المدن الإغريقية القديمة التي حكمها الملوك أو النخب ببنيتها الديمقراطية، مما أدّى إلى الدعوة الأسمى للحياة العامة الفاضلة (فيما سوى الحياة الخاصة في الأوَيكُس (oikos)، أي المنزل) وإلى تقرير المنزلة الأعلى للمجتمع السياسي. بالمقارنة، تكون السياسة الحديثة في أغلب أحيانها نوعاً من العقلانية الأداتية (instrumental rationality) الوحشية المرتبطة بالمصالح المادية للدولة القومية العلمانية.
  7. تم صياغة هذا التعريف من قِبل الماوردي ولكنه يتكرر بتعبيرات مختلفة في تعريفات العلماء الذين كتبوا في الموضوع. قال الماوردي: «فإنّ اللّه جلّت قدرته نَدَبَ للأمّة زعيماً خلَفَ به النبوة، وحاط به الملّة، وفوّض إليه السياسة…وانتظمت به مصالحُ الأمّة» (الأحكام السلطانية، تحقيق أحمد جاد (القاهرة: دار الحديث،١٤٢٧ه/٢٠٠٦م)،١٣). ثم بعد بضعة فقرات يبيّن أنّ: «الإمامة موضوعةٌ لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدُها لمن يقوم بها في الأمة واجبٌ بالإجماع وإن شذّ عنهم الأصمّ. واختُلف في وجوبها هل وجبت بالعقل أو بالشرع؟» (١٥). لمزيد من التفصيل، انظر مقالي:

    “Who Wants the Caliphate?”, Yaqeen Institute, 2019,https://yaqeeninstitute.org/read/paper/who-wants-the-caliphate

    ولمناقشة مفصَّلة حول إسهام الماوردي في سياقه التاريخي والفكري، انظر:

    Ovamir Anjum, Politics, Law, and Community in Islamic Thought: The Taymiyyan Moment (Cambridge, UK: Cambridge University Press, 2012), 117-121.

  8. توجد مناقشة مستفيضة حول معاني كلمة «الأمة» في إسحاق بن عبد الله السَّعْدي، «دراسات في تميُّز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه» (الدوحة، قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية،٢٠١٣)،٦١-١٠٧؛ وتم تلخيص النتيجة في ١٠٤.
  9. بالنسبة لأهل السنة، تشير مصطلحَي «الخليفة» (المتقلِّد لمنصب «الخلافة») و«الإمام» (المتقلِّد لمنصب «الإمامة») إلى ذات المنصب، بينما بالنسبة للشيعة، فالمصطلح الصحيح هو «الإمام»، ويحمل المنصب أهمية عَقَدِيَّة محورية.
  10. بخصوص فشل نموذج الدولة القومية في العالم الإسلامي اليوم، انظر:

    Joseph Kaminski, “Irredeemable Failure: The Nation-State as a Nullifier of Ummatic Unity”, Ummatics, Dec 14, 2022, https://ummatics.org/papers/irredeemable-failure-the-modern-nation-state-as-a-nullifier-of-ummatic-unity.

    أما بخصوص استقطاب بعض العلماء في أعقاب الربيع العربي، انظر:

    Usaama al-Azami, Islam and the Arab Revolutions: The Ulama Between Democracy and Autocracy (London: C. Hurst & Co., 2021; and New York: Oxford University Press, 2022).

    الأدبيات العلمية حافلة بالتقارير حول قمع العلماء والمصلحين تحت ظل الدول الاستبدادية ذات الأغلبية المسلمة. لأحد هذه التقارير المتيسَّرة، انظر:

    Iyad El-Baghdadi and Ahmed Gatnash, The Middle East Crisis Factory: Tyranny, Resilience and Resistance (London: C. Hurst & Co., 2021).

    ولتقرير أنثروبولوجي حديث، انظر:

    Pascal Menoret, Graveyard of Clerics: Everyday Activism in Saudi Arabia (Stanford: Stanford University Press, 2020).

    ولتقرير قديم نوعاً ما لكنه ثاقباً بخصوص العنف الذي توجهه الدول العربية ضدّ شعوبها والتي يدفعها لذلك ضعفها في مشروعيتها، انظر:

    Nazih N. Ayubi, Over-Stating the Arab State: Politics and Society in the Middle East (London: I. B. Tauris, 1995).

  11. البقرة: ١٤٣؛ تشير «أُمَّةً وَسَطًا» إلى الأمة المتوسطة (المعتدلة الاتزان) أو الأمة الفضلى (الأفضل أو الأكثر خصوصية). يتكرر هذان المعنيان في التفاسير. في تفسيره «التحرير والتنوير» يلخّص العلامة الطاهر بن عاشور (ت. ١٣٩٣ هـ) التفاسير السابقة مؤيِّداً كلا هذين المعنيَين، مضيفاً: «والآية ثناء على المسلمين لأنّ الله قد ادّخر لهم الفضل وجعلهم وسطاً بما هيّأ لهم من أسبابه في بيان الشريعة بياناً جعل أذهان أتباعها سالمةً من أن تروج عليهم الضلالات التي راجت على الأمم، قال فخر الدين: يجوز أن يكونوا وسطاً بمعنى أنهم متوسطون في الدين بين المُفرِط والمُفَرِّط والغالي والمقصّر» (https://tafsir.app/ibn-aashoor/2/143). والترجمة الحرفية لعبارة «شهداء على الناس» قد تكون «شهود ضد البشر»، ولكن «شهود على» بمعنى «الدعاة والمعَلِّمين»، تتناسب بشكل أفضل مع المعنى الاصطلاحي. يأتي أنسب تأويل للعبارة في التفاسير لنصر بن محمد السمرقندي (ت. ٣٧٣ هـ) المعروف باسم «بحر العلوم»، حيث يقول: «والشهادة في اللغة هو البيان. ولهذا سُمّي الشاهد بَيِّنَةً؛ لأنه يُبيّن حقّ المدّعي. يعني إنكم [أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم] تبيّنون [وبالتالي تؤكدون وتقررون حق الله] لِمن بعدكم [بعد انقطاع الوحي]، والنبي عليه السلام يبين لكم». يتم الاستشهاد بهذا التفسير وتوضيحه بشكل أوسع في كتاب «محاسن التأويل» لجمال الدين القاسمي (ت. ١٣٣٢ ه/١٩١٤ م) (https://furqan.co/mahasin-altaweel/2/143).
  12. آل عمران: ١١٠؛ بالنسبة لمعنى عبارة «خير أمة»، يقرّر أبو جعفر الطبري (ت. ٣١٠ هـ)، بعد سرده لمجموعة متنوعة من الآراء المتداخلة، أن أصح الأقوال قول الحسن البصري (ت. ١١٠ هـ): «نحن آخرُها [أي الأمم المختارة] وأكرمُها على الله»، وذلك لأن هذا الرأي، كما ينوه الطبري، يتفق مع الحديث النبوي: «ألا إنّكم وَفَّيتم سبعين أمَّةً، أنتم آخِرها وأكرمها على الله» (مسند أحمد وغيره، صححه أو حسَّنه عدة المحدثين؛ https://furqan.co/tabari/3/110). ويروي القرطبي (ت. ٦٧١ هـ) قول ابن عباس بأن «خير أمة» يشير إلى أولئك «الذين هاجروا من مكّة إلى المدينة وشهدوا بدراً والحُدَيْبِيّة»، مضيفاً إليه قول عمر بن الخطاب بأنه «من فعل فعلهم كان مثلهم [في الثناء والثواب]» (https://furqan.co/qurtubi/3/110). ويقول ابن كثير (ت. ٧٧٣ هـ) في تفسيره «والصحيح أنّ هذه الآية عامّة في جميع الأمة، كل قرن بحسبه [أي بحسب فضله]». ويتفق كل من سبق على أن معنى «خير» هو أن الأمة هي الأفضل ليس فقط في ذاتها بل للبشرية بأسرها، أي أنها تعود بأعظم مصلحة لهم، وأن الثناء والشرف ينطبقان على أولئك الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر حسب تقريرهما في وحي الله الخاتم (https://furqan.co/ibn-katheer/3/110).
  13. آل عمران: ١٠٣؛ يعدِّد أبو جعفر الطبري ثلاثة معانٍ متداخلة لمفهوم «حبل الله»: الأول، جماعة المؤمنين الموحَّدة، والثاني، عقيدة التوحيد الخالص، والثالث، القرآن والعهد القرآني بين الله والمؤمنين (https://furqan.co/tabari/3/103). يوافق القرطبي على المعنى الأول، أي الجماعة الموحَّدة (https://furqan.co/qurtubi/3/103)، بينما يوافق ابن كثير والنسفي (ت. ٧١٠ هـ) على الرأي الأخير، أي أن المعنى الأساسي هو القرآن (https://furqan.co/ibn-katheer/3/103). ويؤكد ابن عاشور على معنى «الأمة الموحَّدة بأسرها» باعتبارها حبل الله بطريقة تجمع المعاني الثلاثة جميعاً في المَثَل البديع للحبل: «المقصود الأمر باعتصام الأمّة كلها، ويَحصُل في ضمن ذلك أمرُ كلّ واحد بالتمسّك بهذا الدين» (https://furqan.co/ibn-aashoor/3/103).
  14. آل عمران: ١٠٥؛ يتفق كافّة المفسرين على أن الإشارة في هذه الآية هي إلى أهل الكتاب (https://furqan.co/tabari/3/105).
  15. الحجرات: ١٠؛ يؤكد جميع المفسرين المعنى القائل بأن المؤمنين بالشهادتين كالإخوة والأخوات، على الرغم من تحديد الشريعة أحكاماً مرتبطة بقرابة الأرحام، ﴿وَأولُوا ٱلۡأرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٍ فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ﴾ (الأنفال: ٧٥؛ الأحزاب: ٦)؛ ولكن فيما سوى هذه الشعائر المرتبطة بالإرث، والزواج، وما إلى ذلك، فقد تكون الأخوة في الدين أقوى من حيث المشاعر والموالاة. يَنقل القُرطبي قولًا طريفًا شائعًا بين المسلمين: «أخوّة الدين أثبت من أخوة النسب، فإنّ أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين [كما في أحكام الإرث]، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب (https://furqan.co/qurtubi/49/10). يشير ابن عاشور إلى أن هذه الإشارة إلى العلاقة الإيمانية باعتبارها أخوّة هي إشارة شائع في القرآن والسنة، على سبيل المثال سورة الحشر الآية ١٠.
  16. الأنفال: ٧٣؛ يُلخّص فخر الدين الرازي معاني هذه الآية والتي تسبقها بإيجاز: تتناول الآية ٧٢ ثلاث فئات، الأولى فئة المهاجرين المكيّين وأنصارهم المدنيّين المضيفين لهم، والذين هم أولياء تامّي الولاء لبعضهم البعض؛ والفئة الثانية تَضُمُّ المؤمنين الذين تخلَّفوا عن طاعة أمر الهجرة إلى المدينة (سواء أكان ذلك بإرادتهم أم تحت الإكراه)، حيث يُقَرُّ إيمان هؤلاء ولكن دون مصلحة الوَلاية؛ ومع ذلك، فإذا ما طلبوا النصرة في الدين، فيجب على المؤمنين نصرتهم ولكن هذه النصرة مشروطة بعهود المؤمنين، والتي لا يمكن نكثها. وأخيراً، يجب إبطال كل ولاية مع الكفار. أما الآية التالية (٧٣)، فتعلن بأنّ الكفار بعضهم أولياء بعض، وإن لم يكن المؤمنون كذلك، سيتبع ذلك فسادٌ كبير وفتنة (https://furqan.co/alrazi/8/73). ومن الملحوظ أن الخطر هنا ليس فقط خطراً سياسياً، بل خطر على استقامة الدين وازدهاره بشكل عام. أما المعنى الدقيق للوَلاية، فيروي الطبري، والقرطبي، وابن كثير، وغيرهم من المفسرين معنيَيْن للولاية، أظهرهما، وحسب الطبري الصحيح منهما، هو أن الولاية هنا تعني التناصر، أي الحماية والنصرة العسكرية والسياسية المتبادلة. والمعنى الثاني، المعبّر عنه صراحة في آيات أخرى ولكنه مشار إليه ضمنيّاً هنا، هو فصل العلاقات الاجتماعية كالإرث والزواج بين المؤمنين والكافرين (https://furqan.co/tabari/8/73). يضيف ابن عاشور أن «المقصود إيجاد الجامعة الإسلامية وإنّما يظهر كمالها بالتفاف أهلها التفافاً واحداً، وتجنّب ما يضادّها» (https://furqan.co/ibn-aashoor/8/73).
  17. يستند المفسرون إلى هذه الآية، بين آيات أخرى، للدليل على الرعاية الربَّانية (العِصْمَة) لإجماع الأمة، لأنّ الله قد عيّن الأمة ككل كشهدائه، مما يضمن نزاهة الأمة ككل في كل ما تنقله بالإجماع عن الله. انظر، على سبيل المثال، إلى تفسير الآية ١٤٣ من سورة البقرة في تفاسير الطبري، والقرطبي، والرازي، والنسفي، وابن كثير.
  18. الحجرات: ٩.
  19. الحج: ٤٠.
  20. متفق عليه: البخاري ٦٠١١، مسلم ٢٥٨٦ واللفظ له.
  21. أنظر مقالي «من يريد الخلافة؟» للحصول على تعداد للأطوار الأربعة (أو، إذا احتسبنا الدولة العثمانية الدستورية قصيرة الأجل، الخمسة) التي مرت بها الخلافة التاريخية.
  22. ابن هشام، «السيرة النبوية»، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، ٦ مجلدات (القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ١٣٧٥ه/١٩٥٥م)، ٢ / ٦٦٠-٦٦١.
  23. مسلم ٥٥.

اكتشف المزيد

من يريد الخلافة؟

يوليو 10, 2025
د. عويمر أنجم

مؤتمر إسطنبول ٢٠٢٥ | التحول الأُمَّتي: البحث، المنهج، المستقبل

يوليو 6, 2025
مؤسسة أمّتكس

التضامن الأُمَّتي مع تنوعها الجميل | مع وضاح خنفر

يونيو 24, 2025
وضاح خنفر

يبحث

يبحث

التنقل

ملتقيات أمّتكس
مجالات الاهتمام
أوراق بحثية
الاصدارات
عن أمّتكس
يبحث