الطرح الأوّل: استثنائية الأمّة وإمكانية الخزيان في الدنيا والآخرة

هذه المقالة هي الأولى في سلسلة من الأطروحات التي تُبيّن ضرورية وحدة المسلمين. يمكن الاطلاع على مقدّمة السلسلة هنا.

«لا يصلُحُ آخرُ هذه الأمّة إلا بما صَلَحَ به أولُها».1

ملخّص

إن الميثاق الأمتي الذي بيننا وبين الله سبحانه وتعالى لهو ميثاق تكليفٍ وتشريفٍ لهذه الأمة. ويعني ذلك أن الأمة لن يُكتب لها التمكين والنصر في الدنيا، والأهم من ذلك، في الآخرة إلا من خلال الوحدة الإسلامية، أي من خلال الاعتصام بحبل الله جميعاً. وفي حين أن التقوى الشخصية هي الخطوة الأولى الضرورية، لا يُجزأنا ذلك عما فُرض علينا من التزامات جماعية، ولا يصحّ بنا التقليل من أهمية هذه الالتزامات الجماعية أو طمسها، وإلا فإننا نخشى أن نكون مثل بني إسرائيل الذين عاتبهم الله لأنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه.

 

إن الأمة، باعتبارها أمة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، قد طُلب منها أن تكون شاهدة على البشرية، وفي ذلك تكليف وتشريف معاً. فهي الموكّلة بمواصلة مهمّة النبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلم وقد اختيرت بوصفها الأُمّة الجديدة، لا على أساس نسبٍ أو عِرقٍ أو هويّةٍ خاصّة، بل بناءً على عهدها في تبليغ رسالة الله، وتجسيدها، والقيام بالشهادة على الناس: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.2

إنّ هذا التكليف يقتضي القوة والقيادة والتنظيم، وكل هذا يتطلب بدوره الوحدة السياسية. لقد وقف المسلمون في الماضي في موقع الشهادة على البشرية لقرون، قبل السقوط الذي جعلهم عاجزين عن هذه المهمة. لكن ما الذي تسبّب في سقوط الحضارة الإسلامية؟ هذا سؤال تردّد صداه في عقول المسلمين لما يقرب من قرنين من الزمان، ونظر فيه المصلحون الصادقون بقدر ما نظر فيه المراقبون من الخارج.

لقد أعمت الأفكار المستوردة وربما الافتقار إلى الشجاعة أعين الكثيرين، حتى أصبح يُخيّل للكثيرين أن الإجابة الأسهل على هذا السؤال هو فشلنا في إحقاق القيمة التي تزعم هذه الأيديولوجيا الغربية أو تلك، أنها السبب في نجاحها. فربما يستهوي المجيب على السؤال قيمة، كـ «الحرية (الفردية)!» كما يزعم الليبراليون، أو «المساواة (الاقتصادية)!» كما يزعم الاشتراكيون، أو «المساواة بين الجنسين!» كما تعلن النسوية. ويعقد آخرون كل آمالهم على الديمقراطية، والدستورية، والمؤسسات القوية، أو ربما حاكم قوي حازم مثل شي جين بينغ في الصين أو بوتين في روسيا. وهكذا يُدلي كلٌّ بدلوه مقدّماً الإجابات والحلول، وقد يكون لبعضها قيمة أداةٍ أو وظيفة نفعية محدودة.

لكن الإجابة الصحيحة كما يعرف المؤمن ذو الفطرة السليمة تبقى نفسها دائمًا: الإيمان، أو ذاك الوصف البليغ الذي وصف به النبي صلّى الله عليه وسلم «الوهن» في هذه الأمة فقال: «حبّ الدنيا وكراهية الموت».3 هذا هو الجواب الذي يتردّد على منابر الأمّة. ولكن لما كان الإيمان—كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم—بضعًا وسبعين شُعبة، فإن التحدّي يظل قائماً دوماً في تحديد ومعرفة أي فروع الإيمان فقدناها، وكيف يمكننا استعادتها؟ ليس فقط من الناحية النظرية ولكن في أعماق قلوبنا.

ولا يختبئ جواب هذا السؤال بين الأحاجي والألغاز، بل لن يكون يمكن لقارئ القرآن إلا أن يستشعر بالإجابة واضحة كوضوح الشمس، وكأن أحداً صاح بها من فوق أسطح المنازل. فلم يخبرنا الله بها بشكل مباشر فحسب، بل ضرب لنا الأمثلة عليها من خلال قصص الذين أوتوا الكتاب والميثاق من قبلنا. ففي حديثٍ مشهورٍ، يحذّرنا النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: «لتتبعنَّ سَنَن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتموه»، فسأله الصحابة رضي الله عنهم: «يا رسول الله، اليهود والنصارى؟»، فقال: «فمن؟!».4 إن القرآن الكريم بتحذيره لنا من مصير الأمم السابقة يكشف لنا عن فخاخ المستقبل؛ والتجارب والإغراءات ومصادر التجديد والقوة، وكما هو الحال مع كل نهضة حصلت في الماضي، فإن علينا البدء بالعودة إلى كلام الله.

 

التعلم من الأمم السابقة: ضرورة الوحدة السياسية والتضامن

فيما يلي آية قرآنية صريحة عن سبب معاقبة الله سبحانه وتعالى لقوم فضّلهم بالهداية والأنبياء على خطيئتهم الكبرى:

﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ❃ ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾5

تشير هذه الآية، كما يتفق المفسرون، إلى التحالف السياسي بين قبائل يهود المدينة ومشركي العرب، المتحاربين فيما بينهم، ضد إخوانهم اليهود قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، إذ قام اليهود المتحالفون وقتها بقتال إخوتهم في دينهم وإخراجهم من ديارهم. وإذا جاؤوهم أسرى، يقوم بمفاداتهم واستعبادهم وفقاً لتعاليم التوراة. وبذلك أخلّ هؤلاء اليهود عهده سبحانه وتعالى عندما عملوا بما كانت تعمل به القبائل العربية المشركة، طمعاً في المكاسب مالية وسياسية، وبذلك انقسموا إلى قبائل متحاربة متفرّقة وتحالفوا مع القبائل التي تتفق مع مصالحهم. ومع كلّ ذلك التزمت تلك الطائفة من اليهود بالنصوص الموجودة في التوراة عندما وافقت أهواءهم ومصالحهم، ففادوا أسرى الحرب الذين كانوا هم أنفسهم السبب في أسرهم. وتشير المصادر أنّهم كانوا ملتزمين بشريعتهم التزامًا ظاهريًّا جادًّا، بل وتكبّدوا خسائر شخصيّة كبيرة في سبيل ذلك.6

إن الخطيئة المذكورة في هذه الآيات هي بلا شك التخلي عن الوحدة السياسية. وقد كان الإثم الذي ترتّب عليه عقابان كما تقول الآيات—«الخزي» في هذه الحياة الدنيا و«أشدّ العذاب» في الآخرة—هو اختيارهم ما يناسب أهواءهم من الشريعة الإلهية. لقد تجاهلوا أمر الوحدة السياسية وصيانة حرمة أرواح وممتلكات كل قبيلة وكل مؤمن بينهم. ومن اللافت للنظر أنهم وُصِفوا بالكفر (تكفرون) بجزء من كتابهم على الرغم من تقديمهم القربات الشخصية وتقواهم الاجتماعية وحرصهم على أداء الطقوس الدينية، إلا أنهم لم يحفظوا حرمة أرواح وممتلكات إخوانهم المؤمنين.

انقسم اليهود بذلك إلى قبائل كما انقسم المسلمون اليوم إلى دول قومية، وتحالفوا ضد بعضهم البعض مع المشركين كما فعل المسلمون اليوم، فبالكاد تجد حدوداً بين دولتين قوميتين مسلمتين تخلو من العداء والمشاكل. فالحدود بين السعودية واليمن، وإيران والعراق، وباكستان وأفغانستان، ومصر والسودان، والجزائر والمغرب، لم تخلُ من عوامل التنافس وإراقة الدماء، وكثيراً ما كان ذلك في تحالف صريح مع أعداء الإسلام. وقد أحدث التنافس السعودي-الإيراني دماراً كبيراً في المنطقة بأسرها، مما أدّى إلى ارتكاب مذابح لا يتصوّرها العقل في سوريا واليمن في العقد الماضي وحده. والخيانة المستمرة لغزة من قِبَل كل دولة مسلمة تقريباً هي تذكير آخر بـالخزيَين اللتين حذّرت منهما الآية.

إنّ أولئك الذين يَدْعون المسلمين إلى التعايُش مع نموذج الدولة القوميّة العلمانيّة عليهم أن يتأمّلوا في تحذير الله ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا﴾7، حين جعل تفرّق القوم الذين اصطفاهم عقوبةً شديدةً على خيانتهم للميثاق. والدرس هنا هو أن الأمة التي أنزل عليها الوحي الإلهي لا يمكن أن يعلو شأنها بتجاهله، ولا بانتقاء الأوامر من الكتاب الذي أُنزل عليها، وإلا فستحلّ عليها لعنة الله وعقابه في الدنيا والآخرة. كما أن الحرص على الشأن الخاص في العقيدة والعبادات لا يجدي نفعاً إذا أهملنا أمر الوحدة الأمتيّة عن عمد.

ويحذّر القرآن الكريم والسنّة النبويّة المسلمين باستمرارٍ من الوقوع في أخطاء «من كان قبلكم»، ومن بين هذه الأخطاء تلك الخطيئة الأكثر إدانة وتكراراً، ألا وهي الشقاق والخلاف بين المؤمنين. وفي كل تحذير من الله للأمة التي أنزل عليها الوحي نجد أن الخطيئة الأساسيّة التي ينبّه إليها هي الشقاق والانقسام والعدوان. وبشكل أكثر تحديداً، فإن الكلمات الرئيسية التي تصف هذا الخطأ في العديد من الآيات هي التفرقة والاختلاف والتنازع والبغي.8 وفي المقابل، يُقدِّم الله تعالى الوحدة—تأليف القلوب، واجتماع القوى، والاعتصام بحبل الله جميعًا—على أنّها من أعظم النعم، وأبرز دلائل الفضل الإلهي، وعنوان التمكين والهداية الربّانيّة.

عندما يفقد مجتمع ديني استقلاليته ويتشتّت في عوالم سياسية وثقافية مختلفة، فإنه سيفقد حتماً استقامته الدينية أيضًا. وقد لاحظ هذا الارتباط في التاريخ اليهودي المنظّرُ السياسي الأميركي البارز ذو الأصول اليهوديّة، مايكل وولزر (Michael Walzer)، حيث بيّن كيف أنّ فقدان الاستقلال السياسي أدّى إلى تحوّلات جذرية في البنية الدينيّة لليهوديّة: «فبما أنّ كتّاب الشتات لم يكونوا قادرين على إعادة خوض التجربة المتجسّدة في ذلك النصّ [الكتاب المقدّس العبري]، فقد اضطرّوا إلى إعادة تأويل جذرية، أو بالأحرى إلى سلسلة من التأويلات الجديدة، لمعناه».9 وبكلمات أبلغ، يقول الإمام الماوردي رحمه الله (ت ٤٥٠هـ/ ١٠٥٨م):

«فليس دِينٌ زال سلطانه إلا بُدِّلَتْ أحكامه، وطُمِسَتْ أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عَصْرٍ فيه وِهَايَةُ أَثَر. كما أن السلطان إنْ لم يكن على دين تجتمع به الْقلوب حتى يرى أهلُه الطاعة فيه فرضًا، والتناصر عليه حَتْمًا، لم يكن للسلطَانِ لُبْثٌ ولا لأيَّامه صَفْوٌ، وكان سلطان قَهْرٍ، ومفسدة دَهْرٍ.»

إن من كان يظنّ، بسذاجة، أن عَلمَنَة الإسلام وخَصخَصَته، وقبول سياسات الدول الصغيرة الحديثة (التي تذكرنا بـ «ملوك الطوائف» في دولة الأندلس التي اندثرت الآن)، سينقذهم من التردّي الوشيك، أو أن بإمكانهم تحقيق النجاح في دينهم على الرغم من خيانتهم لمعاناة المسلمين، فعليه أن يعيد التفكير. ففي ممالك الأندلس الصغيرة التي انتهت بإبادة وإذلال المسلمين وانقراض الإسلام من شبه الجزيرة الأيبيرية نذير لما تواجهه اليوم العديد من المجتمعات الإسلامية في جميع أنحاء العالم.10

وباختصار، إنّ الأمر الإلهي النهائي للمؤمنين، وللأمة المستخلَفة لتكونَ أمينةً على الرسالة الإلهية، لنا كما كان لبني إسرائيل هو ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾. 11 من ناحية أخرى، يؤكد القرآن الكريم أيضاً أنّ حمل رسالة الله بإخلاص يقود إلى ازدهار البلدان وانسجام أهلها وتآلفهم، في حين أن الشقاق والفرقة هي نتيجة لترك جزء من رسالة الله سبحانه وتعالى: ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾.12 وبعبارة أخرى، يلزم من الأمر بـ «الاعتصام بحبل الله» الالتزام بدين الله سبحانه وتعالى بكامله والقيام بذلك كمؤمنين متآلفين، وهذان أمران متلازمان.

 

الميثاق الأمتي ميثاق استثنائي

بما أن الأمة مختارةٌ ومطالبة لتكون شاهدةً على جميع الأمم الأخرى فهي تتمتّع بمكانة استثنائية، واختيار هذه الأمة، أو ما قد نسميه «استثنائية الأمة»، يعزّزه الميثاق مع الله تعالى الذي ذكرناه أعلاه والذي يرتبط به نجاحنا في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة.

والاعتقاد بأن الأمة الإسلامية أمة استثنائية، أي أنها مرتبطة بميثاق خاص مع الله، ليس اعتقادًا استثنائياً في حد ذاته. فالمسلمون من حيث العقيدة يؤمنون بأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل، والواجب الناتج عن ذلك أن على الأمة أن تصبح حاملة الوحي الأخير من الله تعالى والمتميزة بالدعوة إليه. والنتيجة المترتبة على هذا الاعتقاد هي أن هذه الأمة لا يمكن أن تزدهر أبداً إن عصت أوامر الله، ويغيب على الكثيرين التبعات السياسية والاجتماعية للإيمان بهذه الفكرة. ولأن الأمة مختارة واستثنائية، فإنها لا يمكن أن تزدهر أبداً بالتخلي عن هدى الله ورفض جزء من الكتاب حتى لو قبلت بعضه.

وربما يفسر هذا سبب التخلف الدنيوي للدول القومية الإسلامية رغم تقليدها نفس الوسائل التي احتضنت العلمانية والرأسمالية والقومية وغيرها من الإيديولوجيات التي اكتسبت من خلالها الدول غير المؤمنة سلطتها. وهذه نتيجة لما أطلقنا عليه استثنائية الأمة، لأن محاولتنا في البحث عن القوة والعزة من خلال تقليد غير المؤمنين ستبوء بالفشل دائماً، وهذا المفهوم هو ما كان يدور في ذهن الإمام مالك رحمه الله عندما قال: «لا يصلُحُ آخرُ هذه الأمّة إلا بما صَلُحَ به أولُها».

والجانب الحاسم في هذه الاستثنائية بالنسبة لنا هو الارتباط بين الوحدة الأمتيّة والنعمة الإلهية المتمثلة في الهداية الصحيحة. فقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن «الله لا يجمع أمتي على ضلالة»13، وهي الفكرة التي يشير إليها المفسرون التقليديون ضمناً في القرآن حول انتقال الوصية النبوية إلى الأمة ككل.14

وحتى المؤرخون العلمانيون كثيراً ما أدركوا بعض حقيقة استثنائية الإسلام في جوانب أخرى، فنلاحظ مثلًا أن الخلافة الإسلامية كانت استثنائية في التاريخ الطويل للإمبراطوريات في غرب آسيا، وذلك لأنها كانت مدفوعة برسالة دينية، في حين لم يكن الدين في التوسعات الإمبريالية الكبرى في تاريخ العالم أكثر من أداة للأيديولوجية الإمبريالية:

إن ظهور الإسلام وتأسيس الخلافة الأولى يثبتان بشكل لا لبس فيه، أكثر من أي حدث رئيسي آخر في تاريخ العالم، أن الأفكار أيضاً مهمة في الشؤون الإنسانية، ويمكنها أحياناً أن تدخل بشكل حاسم في توازن القوى بحيث تحدد الأنماط الإنسانية الدائمة والأساسية.15

كما لوحظ في كثير من الأحيان أن المسلمين كانوا أكثر نجاحاً حتى في المساعي الدنيوية، وأكثر انفتاحاً وتمييزاً، عندما حكمهم الإسلام، بخلاف الحضارات الأخرى التي من المفترض أنها حققت هذه المزايا بالتخلّي عن الدين.

لقد لاحظ مؤرّخو الأديان أن الإسلام له ميزة بين الأديان في وعيه بذاته كدين متميز في نصه التأسيسي، وحفظ كتابه المقدس ورسالته، فضلاً عن إصرار المسلمين المستمر على حقيقة دينهم وأهميته.16 كما لاحظ الكثيرون أن المفاهيم الاجتماعية والسياسية في الإسلام جذّابة ومرنة بشكل فريد، كبدائل للمفاهيم الحديثة للحرية والحكم المسؤول والوعي السياسي والتضامن:

لقد أحدثت الهوية السياسية الإسلامية فرقاً ملموساً عشية الحداثة. ففي ظل الظروف الحديثة، وعلى الرغم من تخلفها عن الركب بسبب النموذج القومي، فقد أثبتت الهوية الإسلامية قدرتها على الصمود إلى الحد الذي جعلها تستفيد بشكل كبير من التطور السريع للاتصالات، كما أدى تعزيز البلاغ الإسلامي القديم إلى تمكين بعض حلقات التعبئة البارزة عبر الكيانات القومية… ولكن حتى في ظل هذا المظهر الحديث للقومية، لم تتمكن الهويات العرقية من الاحتفاظ بأصولها الأخلاقية العالية- والشاهد على ذلك أن أغلبية المسلمين يعتبرون أنفسهم في المقام الأول مسلمين وليسوا مجرد مواطنين في بلدانهم.17

ونظراً لهذه الجوانب وغيرها من جوانب تاريخ الإسلام وأسسه العقائدية، فقد وُصِف الإسلام بأنه الدين الأكثر حداثة، ولكن أيضاً أكثر ما يزعزع أسس الحداثة الغربية.[18] 18

وباختصار، فإن طريقنا إلى التنمية والازدهار باعتبارنا مسلمين، والحاجة الملحة إلى التنمية البشرية والمؤسسية في المجتمعات الإسلامية، لابد وأن يكون أمتياً، ولابد وأن يستند إلى الوحدة والتضامن الأمتي، وأن يتجه نحو تحقيق الوصية الإلهية للأمة. وليس لنا غير ذلك سوى المزيد من الانحدار وصولًا إلى العقاب الإلهي المتمثل في الخزي في الدنيا والآخرة.

 

*          *          *

 

الاقتباس المقترحة:

عويمر أنجم، «الطرح الأوّل: استثنائية الأمّة وإمكانية الخزيان في الدنيا والآخرة»، ترجمة حمزة غضبان، أمّتكس، ٨ مايو ٢٠٢٥،

الطرح الأوّل: استثنائية الأمّة وإمكانية الخزيان في الدنيا والآخرة

هوامش

  1. منسوب إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله.
  2. البقرة: ١٤٣، انظر أيضًا: آل عمران: ١١٠ والحج: ٧٨.
  3. سنن أبي داود، ٤٢٩٧.
  4. رواه أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهما؛ أخرجه البخاري، ٣٤٥٦، ومسلم، ٢٦٦٩.
  5. البقرة: ٨٤-٨٥.
  6. ابن كثير، التفسير، https://tafsir.app/ibn-katheer/2/85، ابن عاشور، التحرير والتنوير، https://tafsir.app/ibn-aashoor/2/85.
  7. الأعراف: ١٦٨.
  8. على سبيل المثال: البقرة: ١٠٣، ٢١٣؛ الشورى: ٤؛ آل عمران: ١٩؛ الجاثية: ١٧؛ والبيّنة: ٤.
  9. انظر:

    Michael Walzer, “Introduction: The Jewish Political Tradition,” in Jewish Political Tradition, vol. 1, Authority, ed. Michael Walzer et al. (New Haven: Yale University Press, 2000), xxii.

    عندما تفقد المجتمعات الدينية قوتها، فإنها تميل إلى تعديل «حقيقتها» من أجل البقاء. ولعل هذا هو الشتات الذي وُصف في القرآن بـ ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا﴾ (الأعراف ١٦٧-١٦٨) كشكل من أشكال العقاب الإلهي.

  10. للحصول على لمحة تاريخية، انظر:

    Hugh Kennedey, Muslim Spain and Portugal: A Political History of al-Andalus (Routledge, 1996), esp. Ch 6, 8.

    حيث استنتج باختصار أن «انقسام المسلمين كان سبباً رئيسياً لضعفهم، حيث سعى الحكام المسلمون باستمرار إلى إيجاد حلفاء مسيحيين ضد إخوانهم في الدين» (٣٠٦).

  11. آل عمران: ١٠٣.
  12. المائدة: ١٤.
  13. سنن الترمذي (٢١٦٧)، وصححه الألباني والأرناؤوط، وأصله: «إنَّ اللَّهَ لا يَجمعُ أمَّتي علَى ضلالةٍ، ويدُ اللَّهِ معَ الجماعةِ، ومَن شذَّ شذَّ إلى النَّار.»
  14. انظر تفسير القرطبي في تفسير الآية ١٤٣ من سورة البقرة، حيث قال: «قال علماؤنا : أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه»، إلى أن قال: «وفيه دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به.»
  15. William H. McNeill, Pursuit of Power: Technology, Armed Force, and Society since A.D. 1000, 2nd ed (University of Chicago Press, 1984), 21.

  16. وبخلاف أي نص ديني آخر موجود اليوم، فإن القرآن يعرَّف بأنه كتاب مقدس يبشر بدين متميز كامل بالعقيدة ومجموعة من العبادات العملية، ويحدد هوية من لا يؤمنون به ويرد على حججهم ويضع نفسه في مواجهة العقائد الأخرى مثل اليهودية والمسيحية. والأهم من ذلك كله، أنه الكتاب الوحيد الذي يعتقد المؤمنون به وأعداؤه أنه محفوظ إلى اليوم.
  17. انظر:

    Michael Cook, Ancient Religion, Modern Politics (Princeton University Press, 2014), 52.

    إلى جانب الهوية السياسية، قدم كوك ملاحظات مماثلة حول استثنائية الإسلام، وخاصة في مواجهة الديانات غير الغربية الأكثر شعبية، كالمسيحية الكاثوليكية والهندوسية، في مجالات القيم والمعايير الاجتماعية (المساواة والتضامن الإسلامي (٢١٣-٤))، والسياسية (٣٥٩)، والعسكرية (٢٤٧)، فضلاً عن قوته وشعبيته في العالم الحديث. كما يقترح أن العديد من المسلمين يبرزون في «أصوليتهم»، أي في إيمانهم الراسخ بـ «عصمة» كتابهم المقدس وتفضيلهم للشكل الأصلي للدين على الإضافات اللاحقة (٣٧٣).

  18. وهذا تفسير لأطروحة شادي حامد في كتابه:

     Islamic Exceptionalism: How the Struggle Over Islam is Reshaping the World (New York: St. Martin’s Press, 2017)

    معتمدًا على أطروحة مايكل كوك المذكورة أعلاه ويضيف إليها.

اكتشف المزيد

إسلام يتجاوز الحدود: بناء التضامن الأمتيّ في القرن الحادي والعشرين

أغسطس 18, 2025
صادق حامد

من يريد الخلافة؟

يوليو 10, 2025
د. عويمر أنجم

لماذا «الأمتية» ؟ سلسلة من الأطروحات

مايو 8, 2025
د. عويمر أنجم

يبحث

يبحث

التنقل

ملتقيات أمّتكس
مجالات الاهتمام
أوراق بحثية
الاصدارات
عن أمّتكس
يبحث