مقدّمة
كانت بدايات العقد الثاني من هذه الألفية محمولة بآمالنا نحن الذين آمنا بإمكانية إرساء أسس حكومة إسلامية محورها المجتمع، وآمنا أن هذه الحكومة تستطيع أن تنمو نمواً طبيعياً في مختلف أنحاء العالم المسلم ضمن حدود الدولة القومية. سطعت شمس هذا الأمل لتكسر عتمة عقود من اليأس المطبق، حاملة معها ما شعرنا أنه فجر جديد ومثير. ولعل كلمات أحمد رفعت أمين، الطالب الجامعي المصري ذو الـ٢٢ عاماً، تلخّص هذه الروح التي سكنت قلوب الشعوب في مقابلته مع البي بي سي في ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١١م: «كان ميدان التحرير، الذي ارتكزت فيه الاحتجاجات في القاهرة، مثل الجنة. لقد كان ما أردنا لمصر أن تكون. صرفت كل تركيزي في الماضي إلى أحلامي الشخصية، أما الآن أصبحت أركّز على حلم وطني نتشاركه جميعنا.»1 استلهمت رسالتي في الدكتوراة من ثورات الربيع العربي التي بدأت في وقت مبكّر من ذاك العام، وأذكر على وجه الخصوص محادثة مطوّلة مع مشرف رسالتي الراحل، مايك وينستين (Mike Weinstein)، عن فكرة مشروعي بعد فترة وجيزة من الحادثة الشهيرة حينما أحرق محمد البوعزيزي نفسه في تونس. وبعد حديث دام لما يقارب الساعة قال لي «مايك» أنه أعطاني «موافقتي الكاملة»، وأضاف أن لا وقت أنسب من الآن للحديث عن نموذج معياري لدولة بحكم إسلامي، وأن علي أن أبدأ العمل دون إبطاء.
استغرق إتمام هذه الرسالة ثلاثَ سنوات، وتبعها ثلاثٌ أخرى لتحويلها إلى كتابي الأول الذي نشرته دار بالغريف (Palgrave) في سلسلة خالد أبو الفضل باسم «الدولة المعاصرة بحكم إسلامي: إعادة تأسيس نظري» [The Contemporary Islamic Governed State: A Reconceptualization]، وسعى هذا الكتاب إلى وضع أسس إطار معياري واقعي متأصّل في علم السياسة يوضّح كيف يمكن أن تعمل دولة معاصرة تحت حكم إسلامي.2 وقدّم الكتاب ما أسميته «مقاربة خطابية (Discursive Approach) للحكومة الإسلامية» ليكون بديلاً يمكن العمل به لفكرة «الدولة الإسلامية» الجدلية التي تنزع إلى أن تكون أكثر شمولية، ونوّهت أيضاً في المقدمة إلى أن هذه المقاربة «تهدف إلى التركيز أولاً إلى تقديم مجموعة من المسلّمات المترابطة أو المعالم الإرشادية قبل محاولة صياغة نظريات محدّدة في سياقات معيّنة، ومن ثم في النهاية وضع سياسات وبرامج محدّدة.3 استندت جملة الكتاب بالدرجة الأولى على الأعمال والأفكار التي تمثّل ما يصفه معظم أهل السنة والجماعة بأنه «الدارج والمقبول» من الفكر الإسلامي التراثي. وكان هناك أيضاً بعض المواضع من الكتاب التي أشارت إلى مفكّرين «إصلاحيين»، ولكن بالتركيز على أفكارهم التي رأيت أنها تلامس الصورة التقليدية لدولة بحكم إسلامي.
إلا أن الشكوك بدأت تتسلّل إلى قلبي مع دنو اليوم المنشود الذي يصل فيه كتابي إلى المطبعة عام ٢٠١٧م. فخلال مخاضٍ شاقٍّ بلغ تسعة أشهر بين إرسالي للنسخة الأخيرة إلى دار النشر وصدور الطبعة الأولى، أدركت شيئاً فشيئاً أن أطروحتي والكتاب المنبثق عنها قد جاء إلى الدنيا في زمنٍ فريدٍ من تاريخنا الحديث كُتِبَ لنا فيه فرصةٌ ثمينةٌ خاطفةٌ، إلا أن هذه الفرصة قد ذهبت ومرّت منذ ذلك الحين. فبحلول عام ٢٠١٧م، أمسى الربيع العربي كابوساً على أهله، فانظر إلى مصر، حيث كان محمد مرسي، أول رئيسٍ منتخبٍ في انتخاباتٍ ديمقراطية، مغيّباً في السجون، وفي مكانه جلس ديكتاتورٌ عسكريٌّ أعتى من سابقه حسني مبارك. وكانت ليبيا واليمن غارقتان في أتون حروب لا يُعرف متى ستنتهي، وتشظّت خارطة سوريا إلى تحالفات تقتّل بعضها مع إحكام بشار الأسد قبضته على السلطة بدعم عسكري من إيران وروسيا. والأنكى من كل ذلك هو صعود داعش في السنوات الأربع الأخيرة التي كانت تضطهد المسلمين وتقطع أعناقهم كالماشية. ولا شكّ أن هذا المشهد المأساوي لم يكن المبلغ الذي سعى إليه الربيع العربي.
إنّ القلب ليغصُّ بالحزن والإحباط عندما أنظر إلى كلِّ ما جرى، وليس ذلك لأنّني «أخطأت التقدير»، بل إنني لا أزال أرى أن العديد من الأفكار التي طرحها الكتاب عن أهمية الكفاءة البيروقراطية والسعي إلى تحقيق سياساتٍ تشاركيةٍ إشراكية تحمل وجاهةً كبيرة، وإنما بسبب سذاجتي في عقدي الكثير من الآمال على الربيع العربي وإمكانية إقامة دولةٍ يحكمها الإسلام على أسس نموذج الدولة القومية. وذلك لأن الكتاب افترض، بشيءٍ من التجريدية والبساطة، إمكانية إقامة دولةٍ يحكمها الإسلام ضمن حدود نموذج الدولة القومية دون أي محاولةٍ لاستقصاء صحة ذلك.
ولكن من كان منا يستطيع، في الوقت نفسه، أن يتنبّأ بهذه الرغبة المليئة بالغدر، التي ظهرت على المسلمين أنفسهم بالدرجة الأولى، بخيانتهم لنظام مرسي المنتخب في مصر، أو ما يشوّه مساعي التحرير النبيلة في سوريا واليمن وليبيا، حيث هيمن على المشهد في تلك البلدان العشائرية والطائفية والوحشية من كل الأطراف بلا استثناء؟ مَن منا كان يستطيع التنبّؤ بأن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لن يتوّرعا عن الاصطفاف إلى جانب دونالد ترمب (Donald Trump) وإسرائيل ضد مساعي التحرير التي بذلها إخوانهم وأخواتهم في الإسلام؟ بل يمكن القول إنّ الوحدة الوحيدة التي حقّقها العالم العربي بعد مرور عقدٍ منذ بداية ربيعه، هي وحدته في دعم العلمنة والمساعي الأمريكية في تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
تحاجج هذه المقالة أن الدولة القومية الحديثة قد فشلت فشلاً كاملاً في معظم أنحاء العالم الإسلامي لأسبابٍ بنيويةٍ متأصّلة، وأن لا جدوى من محاولات إحياء هذا النموذج، وحديثنا هنا للمسلمين الذين يرغبون بأن يكون الإسلام نقطة ارتكاز الوحدة السياسية-الاجتماعية والاقتصادية. تقدّم المقالة أيضاً إجابةً تفصيلية عن سؤال «كيف وصلنا إلى هنا؟»، مع تبيانها أيضاً لأسباب الإخفاقات المؤسّساتية والاقتصادية والجيوسياسية والهوياتية التي وقعت في العالم الإسلامي وكان نموذج الدولة القومية مسؤولاً عن جملتها. لا بد من التفكير خارج المألوف إذا أراد المسلمون استعادة روحهم الأمتيّة، ويبدأ ذلك من الإقرار بأن تجربة الدولة القومية مصيرها الفشل المحتوم في العالم المسلم، ومن ثم، بعد أن يتقبّل المسلمون ذلك، يمكن التنظير وبناء مساراتٍ جديدة بالكلية تتجاوز الحدود الضيقة للدولة القومية الحديثة، بصورتها المتعارف عليها اليوم، وما يقترن بها من أعباء.
الدولة القومية الحديثة مصدراً للفرقة الأمتيّة
يُعدّ كتاب «التكيّف مع الهزيمة» [Coping With Defeat] لمؤلّفه جوناثان لورنس (Jonathan Laurence) أحد أهم الأعمال لكل مهتمٍّ بالفكر الأمتي، حتى لو لم تكن الخلاصات التي يستنبطها الكتاب والحلول التي يقدّمها للمسلمين تتسق مع روح الأمة.4 يختزل عنوان الكتاب، أي التكيّف مع الهزيمة، الحلّ الذي ينصح به المسلمين، ويعني بذلك أنه ينبغي للمسلمين تقبّل الهزيمة والتكيّف مع متطلّبات الدول القومية الحديثة أسوةً بالكنيسة الكاثوليكية. ويستشفي لورنس أن على الدولة القومية الحديثة ذات الغالبية المسلمة أن تسعى إلى القيام بـ«إرجاع ناعم»، في صورةٍ من صور الاندماج الإسلامي إن جاز قول ذلك، تحصل فيه الكيانات المسلمة المحلية على قدرٍ أكبرٍ من الاستقلالية مع بقائها ضمن حدود الدول القومية الحديثة ذات الغالبية المسلمة:
المساحات التي يمكن للدول أن تقوم فيها بهذا الإرجاع الناعم تشمل التعليم الديني والطقوس الحياتية المرتبطة بالولادة والنكاح والجنازات، ومن ذلك مثلاً منح تراخيص لرجال الدين للقيام بالختان في المنزل أو في مستشفيات الدولة، ومنح أئمة المساجد السلطة المدنية لعقد القران نيابة عن الدولة، والسماع بدفن الموتى من دون توابيت.5
سيتناول جزءٌ كبيرٌ من هذه المقالة الحلَّ الذي يطرحه لورنس، مبيّنةً لماذا سيفشل هذا الحلّ حتى في تحقيق «الإرجاع الناعم» الذي نادى به.
يقدّم عمل لورنس، على الرغم من موقفه الانبطاحي، أفكاراً عديدة لها وجاهتها، وبالتحديد وجهة نظره الفريدة عن الأسباب التي أدّت إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية وما صاحب ذلك من تفكك وحدة المسلمين التي بلغت أسوأ صورها في القرن العشرين. ويرى الناظر إلى الأعمال المبكّرة في تلك الفترة أن المفكّرين الذين درسوا الانحسار الحضاري للمسلمين وانهيار الخلافة الناجم عن ذلك قد ركّزوا على أربعة عناوين عريضة، أولها الآثار المتراكمة لتراجع مستويات «الفكر الحر» والاجتهاد الإسلامي المستقل أو بالتعبير الذي اصطلح عليه المسلمون «إغلاق باب الاجتهاد».6 وثاني هذه العناوين العريضة هو عدم ارتقاء طرح «الاقتصاديات الإسلامية» للمستوى المطلوب بالتوازي مع مؤسّسات قانونية متحجّرة حالت دون الوصول إلى مستوياتٍ كافيةٍ من تراكم رأس المال الخاص، وأيضاً تأسيس الشركات وعمليات الإنتاج على نطاق واسع، وقد أصّل لهذه الفكرة علماء معاصرون منهم تيمور كوران7 (Timur Kuran). وثالثاً ما يخصّ الدولة العثمانية وإصابتها بحالةٍ من اللامركزية المفرطة، وأيضاً الاعتماد المفرط على الزراعة مع بداية القرن العشرين.8 وأخيراً لحاق الإمبراطورية العثمانية بالطرف الخاسر في الحرب العالمية الأولى.9
أما لورنس فهو يقول أن التفكّك الذي أصاب المسلمين كان في جملته نتيجة أسبابٍ مختلفةٍ بالكلية، وهي ظاهرة الدولة القومية الحديثة نفسها: «قبول السلطات المسلمة للدولة القومية الحديثة على نحوٍ مثير للجدل وغير متسق، ومن ثم توجّسهم ورفضهم لفكرة تقلّد المناصب السياسية، أحدثت صدعاً ماضياً في المجتمعات المسلمة حول العالم».10 وجملة القول أن المسلمين فقدوا حسّ مركزيتهم المعرفية ووحدتهم أيضاً عندما فقدوا أفضليتهم السياسية، ولم يستطيعوا منذ ذاك الوقت استعادة ذلك.
مرّت الكنيسة الكاثوليكية بنفس أزمة المسلمين قبل أقل من قرنين، فوقتها بدا على الكنيسة الكاثوليكية أنها كيانٌ آيلٌ للسقوط يسير إلى الوراء. ومع دنو القرن التاسع عشر، ظهرت على الكنيسة بعض المؤشّرات التي تدلّ على أنها تعتزم القيام ببعض التحديثات بعد قرونٍ من الركود. ففي عام ١٨٤٦م، تقلّد بيوس التاسع (Pope Pius IX) منصب البابا حاملاً معه عقليةً إصلاحية، وحرّر اليهود من مستنقعات الغيتو (Ghetto) الرومانية التي قُيّدوا فيها منذ عام ١٥٥٥م. إلا أن موجة الثورات التحريرية والديمقراطية التي اشتعلت شرارتها عام ١٨٤٨م لتجتاح القارة الأوروبية بأسرها (وعُرفت بعد ذلك باسم ثورات ١٨٤٨)، ومن ثم اغتيال رئيس وزرائه (أو كما يُعرف بالإيطالية وقتئذٍ بوزير الشؤون الداخلية) بيلغريني روسي (Ministro della Interno Pellegrino Rossi) بتاريخ ١٥ نوفمبر/تشرين الثاني من ذات العام أحدث ردة فعلٍ عند البابا بيوس التاسع الذي غلبت عليه بعد ذلك المواقف المحافظة الشديدة.11 فأعاد البابا بيوس التاسع اليهود إلى الغيتو في بداية خمسينات القرن التاسع عشر (١٨٥٠م)، ومن ثم، بتعبير لورنس، قرّر أن «يتحصّن وراء جدران الفاتيكان» في ستينات القرن نفسه، وأصبح همّه الأول «التشديد غاضباً على أن شخصه معصومٌ من الخطأ». وفي عام ١٨٦٤م، نشر البابا بيوس التاسع لائحة الإدانات البابوية (Syllabus Errorum) المثيرة للجدل والتي أدانت كل ما هو ليبراليٌّ وحديث، ومن ذلك فكرة التسامح الديني والتعدّدية، وفي عام ١٨٧٠م، قال المجمع الفاتيكاني الأول بعصمة البابا في موقفٍ دوغمائيٍّ، منافٍ لروح عصره، ومناهضٍ لأفكار عصر التنوير، وغير عقلانيٍّ في النهاية، إذ قال المجمع أن البابا يستحيل أن يخطئ في مواقفه عن الدين والأخلاق إذا تحدّث بصفته البابا خليفة القديس بطرس أو بالتعبير اللاتيني «إذا تحدّث باسم الكرسي البابوي» (Ex Cathedra)، وطبعاً لم يجرؤ أي خليفةٍ في تاريخ المسلمين بالإتيان بفكرةٍ كهذه مهما بلغ طغيانه.12
في الوقت نفسه، كان المراقبون الغربيون يكيلون المديح لخليفة المسلمين السلطان عبد المجيد (١٨٣٩-١٨٦١م) الذي رأوا فيه نبراساً للتعدّدية الدينية والتسامح والتقدّمية. فانظر مثلاً إلى مقالةٍ نُشرت في صحيفة «النيويورك تايمز» في تشرين الأول/أكتوبر ١٨٥٩م التي قالت أنه في حين كان البابا «يتنصّل من نداء العصر»، كان الخليفة «يظهر بمظهر البطل، بل ويكاد يُفني نفسه في سبيل التقدّم».13 وحتى عندما بدأ شبح الدولة القومية يحوم حول الإمبراطورية العثمانية، لم يثنِ ذلك السلاطين العثمانيين المتأخّرين عن تقوية شبكات المسلمين العالمية وإصدار مئات الفتاوى يومياً للمسلمين في كل مكان.14 وحتى عندما غلب الوهن على الخليفة ككيان سياسي مع نهاية القرن التاسع عشر، احتفظ الخليفة بقيمته الرمزية العالية وكان المركز المعرفي للمسلمين في أنحاء العالم. وكما يقول إسرائيل غيرشوني وجيمس جانكوسكي (Isarel Gershoni and James Jankowski):
مع بداية القرن العشرين، أصبحت هوية المسلم في الكثير من أنحاء العالم المسلم تتمحور حول التضامن مع الإمبراطورية العثمانية، وتجلّى ذلك في إعلان البيعة للسلطان/الخليفة، والقبول بسلطته النظرية بدلاً من الخنوع الكامل لأوروبا، ودعم الدولة العثمانية أيضاً في الأزمات الدولية التي خاضتها.15
لكن انقلبت الأحوال خلال القرن العشرين. فقد آذنت نهاية ما أسماه إريك هوبزبون (Eric Hobsbawn) بـ«القرن التاسع عشر الطويل» (فترة امتدت إلى ١٢٥ عاماً من ١٧٨٩م إلى ١٩١٤م) بنهاية الإمبراطورية العثمانية، وبتاريخ ٣ آذار/مارس ١٩٢٤م أعلن مجلس الأمة التركي الكبير (Türkiye Büyük Millet Meclisi) المؤسّس حديثاً حلّ الخلافة رسمياً.16
ويرى لورنس أن «التفكّك العقائدي الذي يعصف اليوم بالمسلمين السنة يرجع إلى قرار الأوروبيين بتقويض سلطة الخليفة في الأراضي التي حكموها لفترةٍ وجيزة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا وجنوب شرق آسيا».17 وفي النهاية نجحت الكنيسة الكاثوليكية أن تندمج مع نموذج الدولة القومية، على الرغم مما مرّت به من مصاعب في البداية، وحافظت على مركزيتها الثيولوجية بينما فشلت الخلافة العثمانية في ذلك. وقد هُوجمت الخلافة العثمانية من كلّ جانب، بدءً من الوهّابيين القوميين وانتهاءً بالكماليين العلمانيين المناهضين مناهضةً شديدةً للدين، وقد أدّى كلُّ ذلك في النهاية إلى حلّ الخلافة.18 ويقول لورنس أيضاً إنّ المستعمرين الأوروبيين تنبّهوا إلى خطر بقاء بنية تحتية مسلمة موحّدة بعد رحيلهم عن المنطقة، ولهذا عملوا على «إضعاف وتفكيك البنية التحتية الدينية القائمة في المناطق التي احتلّوها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لأنهم لم يريدوا أن تتمتّع إسطنبول بشيءٍ من النفوذ على رعاياهم».19 ولكن ارتاحت القوى الأوروبية من هذا الهمّ مع نهاية العشرينات من القرن الماضي التي شهدت نجاح أتاتورك والعلمانيين القوميين، الذين صبّوا تركيزهم على شأنهم الداخلي، في إحكام سيطرتهم على الجمهورية التركية المؤسّسة حديثاً.
واليوم، بعد أكثر من سبعين عاماً، يذكّرنا نيون غينغرتش (Newt Gingrich)، الناشط اليميني وعضو الحزب الجمهوري الأمريكي والرئيس السابق لمجلس النواب الأمريكي، بولع الغرب الذي لم ينضب بأتاتورك، حينما قال إنّ ما قام به في «عملية تحديث تركيا» (أي علمنتها، واعتماد أبجديةٍ لاتينيةٍ بدلاً من الأحرف العثمانية التركية، وقطعها عن ماضيها العثماني) كان «أحد أعظم المآثر البطولية في القرن العشرين».20 لقد عمل الأوروبيون بمنطق «فرّق تسد» في تشكيلهم لدولٍ قوميةٍ على الطراز الأوروبي في الأراضي المسلمة، وإن كُتِبَ لتلك القوى الاستعمارية ما أرادت بالكامل، لكانت قد اختارت لكل دولةٍ قوميةٍ ذات غالبيةٍ مسلمة أتاتوركاً مستبداً يحكمها.
لقد مرّ قرنٌ تقريباً على حلّ الخلافة، والمسلمون اليوم في حالةٍ من الانقسام الشديد لا يقتصر على خلافاتهم الدينية الطائفية، وإنما يتجلّى أيضاً في النزعات القومية المستوردة التي زرعت بذور الشحناء والاقتتال بين المسلم وأخيه في صراعٍ على السلطة والمكاسب الدنيوية. ويظهر أن شمعة أمل الوحدة الإسلامية العالمية قد انطفأت، أو على الأقل نُسيَت وأُهمِلت، لتحلّ مكانها أيديولوجياتٌ علمانيةٌ ترتكز على الإثنيات كالوحدوية العربية (Pan-Arabism) والناصرية والبعثية خلال فترة اجتثاث الاستعمار التي لفّت العالم المسلم في القرون التي تبعت حلّ الخلافة.21 وفي تلك الفترة شهد العالم المسلم فرض العلمانية، بشكلٍ أو بأخر، من أعلى هرم السلطة، وكانت النتيجة كارثيةً في كل مرة. وكما يذكّرنا حسين علي أغرما (Husein Ali Agrama): «تُتيح القوى العلمانية مجالاً متنامياً لقدرات الدول ذات السيادة».22 ويبيّن نادر هاشمي (Nader Hashmi) سبب «نجاح» العلمانية الأوروبية، وفشل فرض العلمانية من أعلى هرم السلطة في العالم المسلم:
كانت العلمانية الأوروبية عمليةً أصيلةً [Indigenous] وتدريجية نمت بالتوازي مع التطوّرات الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية، ودعمتها محاججات فكرية، وأيضاً جماعات دينية، وهذا من الأهمية بمكان، وضربت جذوراً عميقة لها في ثقافة أوروبا السياسية. وبالمقابل، غلبت على نظير تلك التجربة في العالم المسلم نظرةٌ للعلمانية على أنها أيديولوجيا دخيلة فُرضت من الخارج، أولاً على يد الغزاة المستعمرين، ومن ثم النخب المحلية التي صعدت إلى السلطة خلال فترة ما بعد الاستعمار.23
أفضت هذه النظرة إلى العلمانية، أي أنها أيديولوجيا دخيلة مفروضةً من الخارج كما تقدّم، إلى شكٍّ عميقٍ في قلوب المسلمين المتديّنين الذين لم يقتنعوا أصلاً بالسرديات الكبرى التي تقدّمها الدولة القومية الأوروبية. ولو أخذنا العلمانية التي فرضتها الجمهورية التركية مثالاً، فإن سلمان سيد يذكّرنا: «لم تكن علمانية الجمهورية التركية استجابة لمطالب الجماهير التركية، بل انبثقت بالأحرى من مشروع الغربنة السلطوي التابع للكماليين».24 وقد تفطّن المسلمون المتديّنون إلى أنّ المظاهر الخارجية الاستعمارية قد أُزيلت، ولكن البُنى الأساسية التي تقوم عليها الأيديولوجيات المعلمِنة الانقسامية لا تزال قائمة، وعلى أساس هذه البُنى شُيّد سراب «الاستقلال» و«الحكم الذاتي» الخادع في الدول القومية الحديثة ذات الأغلبية المسلمة.
خسر المسلمون إذاً السلطة الأخلاقية التي جسّدتها مؤسّسة الخلافة وتبع ذلك وأد السلطة الأخلاقية للإسلام نفسه بصفته المبدأ السياسي المركزي الذي ينظّم أمر المسلمين في ما تلا ذلك من عقود، وأدّى ذلك إلى ميلاد دول قومية مسلمة مشوّهة بعد زوال الاستعمار. فقد وُلدت هذه الدول دون أي مبدأ تنظيميٍّ يتمتّع بالشرعية التاريخية ويستطيع أن يحكمها. وأدّى ذلك بدوره إلى خلق فراغٍ في السلطة منذ لحظة ميلاد هذه الدول، ولم يكن لأحدٍ أن يملأ هذه الفراغات سوى «النخب المحلية والأتوقراطيين» المتطلّعة للسلطة «الذين ورثوا رداء السلطة بعد رحيل المستعمر».25 وفي هذا الفراغ استطاع المنتصرون أن يستأثروا بغنائم الحرب لأنفسهم وأن يصيغوا دولاً وسرديات تاريخية ورؤىً تخدم مصالحهم الشخصية. ويمكن هنا أن نرى أن هذه الدول الناشئة ذات الأغلبية المسلمة قد لازمتها لعنة العجز التنموي منذ لحظة ولادتها، بحكم افتقارها إلى مبدأ سياسي تنظيمي له شرعيته التاريخية يمكن أن يحكمها، وقد تجسّد ذلك في العديد من السياسات المغلوطة والمؤسّسات المتخبّطة التي نراها اليوم.
فشل المؤسّسات السياسية: الشركاتية بلا رقيب ولا حسيب
عانت الدول القومية ذات الغالبية المسلمة من مشكلة الفشل المؤسّساتي لعقود، وقد تغلغلت تجلّيات هذه المشكلة حتى أصبح من غير الممكن إصلاحها بإجراء تعديلات سياسية بسيطة، أو بتعيين رؤساء دول «يفكّرون بالمسلمين». لقد فُرضت الدولة العربية الحديثة على العرب فرضاً على يد القوى الاستعمارية، وتجلّى ذلك في أكثر من صورة. وكما يقول نزيه أيوبي: «إن الدولة العربية ليست نمواً طبيعيّاً من رحم تاريخها الاجتماعي-الاقتصادي أو تقاليدها الثقافية والفكرية الخاصة بها».26 ومن ثم رُفعت رايات بألوان جديدة ورُسمت خطوط اعتباطية على الخريطة، ولم يتبع ذلك أي شيء. ولذلك لم يكن بمقدور الدولة القومية العربية الحديثة أبداً أن تطوّر، بصورةٍ عضوية، العديد من الشروط الاجتماعية التي تسبق إقامة الديمقراطية التي استفاض علماء السياسة في تفصيلها في آخر 60 عاماً، ومنها لزوم الوصول إلى مستوىً معيّن من التنمية الاقتصادية، ومستوىً معيّن من التنمية والتمايز الطبقي، ووجود مؤسّسات، ومستويات معيّنة من المجتمع المدني، ومستوىً كافٍ من الاستقرار الاجتماعي السياسي.27 وكما يقول وائل حلاق: «وقد ورث هؤلاء [النخبة القومية بعد-الاستعمارية] من أوروبا دولة قومية جاهزة (بكل هياكل القوة المكوّنة لها)، لم تكن التكوينات الاجتماعية القائمة قد تهيّأت لها على النحو المناسب».28
لا تزال الريعية (Rentierism) تهيمن على العديد من الدول القومية ذات الغالبية المسلمة، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تشير الريعية أو الدول الريعية، في سياقات الاقتصاد السياسي، إلى الدول التي يعتمد اقتصادها بالدرجة الأولى على جمع الريع، ويمكن فهم الريع بأنه «دفعات مالية يُتحصّل عليها من خارج الدولة ومن دون إنتاجية»، وتكون هذه الدفعات «غالباً في هيئة إتاوات أو ثمناً مقابل النفط والغاز».29 وعادةً ما تفرض الدول الريعية ضرائب قليلة أو أنها لا تفرض ضرائب على الإطلاق، وهو ما يجعل مطالب الشعوب منها منخفضة، وبالتالي تترسّخ صور انعدام المساءلة والفساد. وكما يبيّن ماثيو غري (Matthew Gray): «لمّا كانت هذه الدول تحصل على عائداتٍ خارجية [ريع منتظم تحصل عليه من تصدير النفط وغيره من الموارد الطبيعية] ومن ثم توزّع هذا الريع على المجتمع، لا تُضطر هذه الدول إلى فرض ضرائب، ويعني هذا بدوره أنها ليست مضطرة لتقديم أي مساومات لمجتمعاتها مثل تسويات ديمقراطية أو استراتيجيات تنموية». 30 وتُعدّ الموارد الطبيعية، تحديداً النفط والغاز، هي المحرّك الاقتصادي الأول لمعظم اقتصاديات دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فتنعم بعض هذه الدول بالرخاء ارتفعت أسعار النفط، وإن انخفض سعر النفط، فيسوء حال جميعها.
والاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هم النخب الحاكمة وأمراء الحرب الإقليميون، فالرخاء هو حال الذين يجلسون في أعلى مناصب السلطة في جميع الأوقات نسبياً. فحتى إن ساء حال البقية، فقد اتخذ زعماء هذه الدول تدابير كثيرة لجعل أنظمتهم عصية على الانقلابات، كما أنه من المستبعد إسقاط هذه الأنظمة بالحشد الشعبي أو الانتفاضات الشعبية. وفي الأدبيات الغزيرة التي كُتبت عن فكرة التحصّن من الانقلابات، يجد الباحث أن دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي الأمثلة التي يذهب إليها المؤلّفون لبيان هذه العملية. فيكتب جيمس كوينلفان (James Quinlivan)، أحد أبرز الكتاب الذين تحدّثوا عن التحصّن من الانقلابات:
لا شكّ أن كل حالة من التحصّن من الانقلابات تختصّ بعناصرها الفريدة، ولكن يُوجد عدد من الخصائص التي تشترك فيها حالات التحصّن من الانقلابات، من بينها: ١. الاستعمال الفعّال للولاءات العائلية والإثنية والدينية، بوضع أصحاب هذه الولاءات في مناصب حسّاسة يسهل منها القيام بالانقلابات، وموازنة ذلك مع مشاركة أوسع ومعايير ولاء أكثر تراخياً مع الدائرة الأوسع للنظام، ٢. تشكيل قوة عسكرية موازية للجيش الرسمي، ٣. تطوير غير واحد من أجهزة الأمن الداخلية تتقاطع في نطاقاتها القضائية، وتراقب هذه الأجهزة باستمرار ولاء الجيش، مع وجود جهاز آخر له مسار تواصل مستقل مع أهم قادة النظام، ٤. الحرص على وجود خبرة في الجيش الرسمي، ٤. تمويل هذه التدابير.31
ونرى أن جملة الأنظمة الأوتوقراطية التي تحكم الدول القومية ذات الغالبية المسلمة قد عملت بهذا المخططّ حتى أدقً تفاصيله. وكثير من هذه الدول، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تنفق النسب الأكبر من ناتجها المحلي الإجمالي بالنسبة للفرد على الأمور العسكرية، وفي هذه الدول أيضاً يكون الولاء المطلق هو الشرط الأهم للترقّي في المراتب العسكرية، ويُكافأ أولئك عادةً مكافآت سخية على إثبات ولاءهم.32 وعادةً ما ينال الضباط الكبار في الأنظمة الأوتوقراطية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مزايا ممتازة منها «رواتب عالية على نحو غير متناسب، والاستفادة أكثر من غيرهم من الخدمات والسلع كالسكن والسلع الاستهلاكية النادرة والخدمات الطبية عالية الجودة».33 ويُعيّن هؤلاء الضباط أيضاً بعد تقاعدهم في مناصب إدارية مرموقة أو يترأسّون مشاريع تجارية مربحة تسيطر عليها الدولة، أو كلٌّ من هذا وذاك.
سعت بعض دول مجلس التعاون الخليجي في السنوات الأخيرة إلى تنويع وارداتها الاقتصادية. ولكن الطرق التي عملت بها هذه الدول لا تساعد في إرساء الأسس لتنمية طويلة الأمد أو زيادة القدرات الصناعية. وعلى الرغم من محاولات بناء طبقة وسطى، فإن الصناعات المستدامة لم تجد طريقها بعد إلى الدول القومية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وإنما لا تزال جاذبية مدن مثل دبي تتلخّص، كما يعبّر فالي نصر (Vali Nasr)، بأنها «مكان تلتقي فيه لاس فيغاس بديزنيلاند بروديو درايف، وكل ذلك في كيان عربي».34 وقد جلبت العولمة أفخم وأحدث المراكز التجارية إلى دبي، ومعها تدفّق مستمر من السياح إلى أماكن مثل دبي والمنامة، ولكنها لم تجلب مع ذلك تنمية صناعية حقيقية على نطاق واسع.35 كما أن أنماط الإنتاج التي أرست أسسها موجات الاستعمار الجديد لا تزال قائمةً كما هي في معظم دول الخليج. وكما يقول نصر في مقابلته مع وورن هوج (Warren Hoge) من معهد السلام الدولي (International Peace Institute):
كما تعرف، نحن نتعامل مع العالم المسلم كحكومات، كشعوب، وذلك بطرق مختلفة، ولكننا لا نتعامل معهم اقتصادياً. أقصد بذلك أن شراء النفط وإرسال المنتجات المصنوعة ليس عولمة، وإنما تجارة بالمقايضة. فهي لا تؤثّر بأي شيء. ما سيحدث فارقاً حقيقياً هو أن تصبح أجزاء كبيرة من العالم المسلم جزءً من سلاسل التوريد، أي أنك ستجد على رفوف محال وولمارت [Walmart] بضائع مصنوعة في العالم العربي أو في أجزاء مختلفة من العالم المسلم، وما يهمّ أيضاً أن تصبح المصالح الاقتصادية للطبقات الاجتماعية الرئيسية وأصحاب الوظائف في العالم المسلم مرتبطة بصحة الاقتصاد العالمي.36
أي أن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم تجد بعد موطأ قدم لها في سلاسل التوريد التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي، وبعبارة أخرى لا تزال الريعية ورأسمالية المحسوبية (Crony Capitalism) هي المعادلة المهيمنة على هذه البلدان. فلا تنتج هذه الدول سيارات أو قطع طائرات أو حواسيب أو أي منتجات صناعية على نطاق واسع. لم تجد هذه الدول طريقها إلى سلاسل التوريد العالمية، ولا يوجد من الأسباب ما يدفع للاعتقاد بأن هذا سيحصل قريباً أيضاً.
وبالمحصّلة، «لم تتطوّر فيها [أي في الدول القومية العربية الحديثة] ‹الفردانية الفلسفية› ولا الطبقات الاجتماعية تطوّراً جيداً يسمح بظهور سياسة كالتي نراها في المجتمعات الغربية الرأسمالية».37 ولا بد أن يتذكّر القارئ أن الفردانية الفلسفية وُلدت من رحم التنوير الأوروبي، وليس الحضارة الإسلامية التي كان تركيزها على تقوى الفرد والأوامر التي يشترك فيها المجتمع.38 وقد فرض هذا الواقع على ثلاث دول عربية انتهاج نمط مختلف من الشركاتية السلطوية، وكان ذلك غالباً باسم مصلحة الدولة العليا (Raison d’état). وفي كتابات مانوكر دوراج (Manochehr Dorraj) وصف بليغ لأسس هذه الصورة من الشركاتية:
عادةً تكون الدول الشركاتية دولاً قوية ونشطة وحاضرة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك في محاولتها الموازنة في مصالح الجماعات المختلفة. تحاول هذه الدول إيجاد شراكة بين الدولة والأعمال التجارية والعمال، وتكون الدولة هي من توجّه هذه الشراكات وتتحكّم فيها وتحدّد أجندتها. وبحكم الطبيعة التراتبية للدول الشركاتية، تكون الدولة هي القاضي والفاصل في موازنة ومفاضلة المصالح. وتفعل الدولة ذلك ببناء مؤسّسات، ومنظّمات جماهيرية ›مدمجة‹ في الدولة. وتضع الدولة موالين لها على رأس هذه المنظّمات، وهو ما يجعلها غالباً جوفاء من الداخل وتحت سيطرة الدولة الناعمة، أي أنها لا تؤدّي دورها كمؤسّسة ممثّلة ديمقراطية كما أريد لها. وبهذا لا تملك المنظّمات الجماهيرية أي قدر من الاستقلال وهي امتداد لذراع الدولة وأداة لتنفيذ سياساتها.39
يمكن إسقاط وصف دوراج للدولة الشركاتية على الغالبية العظمى من الدول القومية ذات الغالبية المسلمة اليوم، خصوصاً الدول الموجودة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويدعم دوراج في طرحه ما ذهب إليه مهران كمرافا (Mahran Kamrava) وآخرين بأن «القطاع الخاص في جميع دول مجلس التعاون الخليجي يعتمد اعتماداً كبيراً على الدولة، وهذا هو الحال لسنوات طويلة، وأنشطته التجارية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوزيع المباشر وغير المباشر لثروة الحكومة».40 وعلى ذلك لا يمكن إنكار حقيقة أن الدولة تشغل دوراً محورياً في تحديد اتجاه العمل والتجارة، أي ماهية ما يُنتج، وكمية إنتاجه، وهوية من ينتجه، خصوصاً في العالم العربي، وكلّ ذلك على حساب المصلحة العامة.
وحتى تضمن الدول العربية سير هذه العملية بسلاسة من أعلى الهرم إلى أسفله، يلجأ زعماء هذه الدول إلى تعيين «جماعتهم» في المناصب الإدارية والتجارية الرئيسية. ولهذا نجد كثيراً من الأفراد الذين تربطهم علاقات قرابة بالعوائل المالكة على رأس مشاريع صناعية وتجارية هامة في العديد من دول الخليج، وكما لك أن تتخيّل، لا يستطيع أحدٌ عزل هؤلاء الأفراد المنتقين إلا من عيّنهم في مناصبهم. ولكن لم يكن الحال كذلك في الفترات الأولى من القرن العشرين، فقد نأى المقرّبون من العوائل المالكة العربية بأنفسهم عن المشاريع الخاصة الكبيرة، مع سيطرتهم على الوزارات والأجهزة الإدارية في الدولة، فحتى الثمانينات لم يُعرف عن أحد من المقرّبين من العوائل المالكة أنه كان منخرطاً في العمل التجاري سوى طلال بن عبد العزيز وابنه الوليد اللذين كانا الفردين الوحيدين من العائلة المالكة السعودية الذين كان لهم وجودٌ في مجال الأعمال.41 ولكن زاد انخراط أفراد العائلة المالكة السعودية في الأعمال الخاصة زيادة دراماتيكية خلال التسعينات: «قرّر الكثير من الأمراء من الجيل الثاني والثالث الذين شغلوا مناصب حكومية مرموقة [في السعودية]، مع توالي الملوك السعوديين، أن يبنوا أعمالهم الخاصة عندما أدركوا أن فرص صعودهم داخل النظام أصبحت معدومة».42 وشهدت الإمارات تطوّرات مشابهة أيضاً، فلم يرغب أفراد العائلة المالكة الإماراتية بدخول عالم إدارة الشركات الخاصة والشركات الحكومية المتنفذّة حتى بداية الألفية الجديدة، ولكن تغيّر الحال كثيراً في العقدين الأخيرين:
يترأّس محمد بن زايد الشركة الحكومية مبادلة التي يعتبرها أداته الاستثمارية الرئيسية. ويترأّس منصور بن زايد (الذي تزوّج منال بنت محمد بن راشد ابنة حاكم دبي) ثالث أكبر صندوق ثروة في أبو ظبي، وشركة الاستثمارات البترولية الدولية، وأيضاً هيئة الإمارات للاستثمار، وهي صندوق الثروة السيادية الوحيدة في الإمارات العربية المتحدة. يملك منصور بن زايد، إلى جانب هذه المناصب الحكومية، عدداً من الأصول منها مجموعة أبو ظبي المتحدة للتنمية والاستثمار (التي تملك النادي الكروي مانشستر سيتي) وشركة داس القابضة.43
وفي الوقت ذاته فإن هذه الدائرة الضيقة من النخب التجارية السعودية والإماراتية، ما يُعرف بالمفهوم الغربي بـ«رياديين مستقلين أثرياء»، «ينقادون بالكامل للعوائل المالكة وهم ملزمون بالتكيّف مع أولوياتها التجارية».44 ونظامٌ كهذا من شأنه أن يقيّد الابتكار والتنمية ويرسّخ الواسطة والمحسوبية الموجودتان بمستويات عالية أصلاً.
وفي إيران، على الرغم من انتهاء حقبة الأسرة المالكة، يحظى الحرس الثوري الإيراني بسطوة كبيرة على شاكلة الأسر المالكة في السعودية والإمارات. فرؤوس أهمّ الأعمال التجارية وأغزرها ربحاً يرتبطون بشكل مباشر بالحرس الثوري الإيراني. ويذكر حسام فروزان وأفشين شاهي (Hesam Forozan and Afshin Shahi) أن الحرس الثوري الإيراني «يتحكّم بما تصل نسبته إلى سدس الناتج المحلي الإجمالي المعلن في إيران»، مضيفين أن «النفوذ السياسي للحرس الثوري الإيراني قد نمى أكثر وأكثر بعد فوز محمود أحمدي نجاد، أحد قيادات الحرس السابقين، ورافق ذلك توسّع رقعة الحرس الاقتصادية بدخولهم في مشاريع النفط والغاز الكبيرة والقطاعات المالية والبنكية في إيران».45 ويرى البعض أن نشاط الحرس الثوري الاقتصادي يحدّ من نمو القطاع الخاص في إيران، فصحيحٌ أنه يعمل مع مقاولين من القطاع الخاص على العديد من المشاريع الكبيرة التي يشرفون عليها، إلا أن دورهم أقرب إلى وسطاء بين القطاع الخاص والحكومة، وبذلك يضمن الحرس دائماً حصوله على نسبة من الأرباح.46 وبيت القصيد هو أن محتكري هذه المناصب العليا لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه لأنهم الأذكى والأكفأ تجارياً، وهم بكل تأكيد لن يجرؤوا على تحدّي مصالح الدولة في خططهم وأعمالهم التجارية، خصوصاً أن شاغلي هذه المناصب هم، من نواح عديدة، الدولة نفسها.
يستشفي المرء مما سبق نمطاً واضحاً يتكرّر في معظم الدول القومية الحديثة ذات الغالبية الإسلامية يتعارض مع الوحدة الأمتيّة، والحكم الشفّاف المرتكز على المجتمع، والاقتصاد المفتوح العادل، وتمكين الناس. فكلما زادت هذه الدول القومية غنىً ونفوذاً يزداد تغوّل النخب، الذين تجمعهم رابطة الدم، في الدولة، وتتنامى سيطرتهم على أسباب النهضة المالية العامة منها والخاصة داخل هذه الدول، بدلاً مما يجب أن يكون وهو العكس تماماً: تفكيك شبكات النفوذ وتوزيع الثروات توزيعاً أكثر عدلاً بين الناس. وبعبارة أخرى، بدلاً من إثراء التنوّع الاقتصادي في هذه الدول القومية، وترسيخ معايير التفاضل بالكفاءة، وإعلاء قيم الشفافية، تسير هذه الدول بالاتجاه المعاكس تماماً.
إنّ الدول القومية العربية الحديثة هي دول «ضارية»، بتعبير أيوبي، لمّا كانت لا تستطيع البقاء حيةً دون القمع والقوة:
إنها [أي الدولة القومية العربية الحديثة] دولة «الفردانية الفلسفية» كثيراً ما كانت تلجأ إلى القسر الفجّ في سبيل المحافظة على نفسها، لكنها ليست دولة «قوية» لأنها: (أ) تفتقر – بدرجات متفاوتة- طبعاً إلى «قوة البنية التحتية» التي تمكّن الدول من النفاذ في المجتمع بشكل فعّال من خلال آليات على شاكلة الضرائب مثلاً، و(ب) تفتقر إلى الهيمنة الأيديولوجية (بالمعنى الغرامشياني) التي من شأنها أن تجعلها قادرة على تشكيل كتلة اجتماعية «تاريخية» تتقبّل شرعية الطبقة الحاكمة.47
ويأتي سلمان سيد بعد ما يقارب العقدين من الزمن ليتطرّق إلى أفكار أيوبي عن الدولة القومية العربية الحديثة بتفصيل أكبر، إذ يقول سيد أن الصورة الغالبة على الدول القومية الحديثة ذات الغالبية المسلمة (التي يُطلق عليها مسلمستان من باب الانتقاص) هي صورة دولة المخابرات. يقول سيد: «استخدمت دولة المخابرات الخدمات الاستخباراتية واسعة المدى والتعذيب الممنهج للحيلولة دون التحرّكات الشعبية» وبمساعدة القوى العظمى العالمية تمكّنت هذه الدول من «نبذ الشرعية الشعبية».48 ولا يمكن تأسيس حكومة ترتكز على المجتمع، حتى بأبسط صورها، ما لم يكن هناك قدر كافٍ من الشرعية الشعبية الحقيقية.
ولعل مما يثير السخرية هو أن ضراوة دول المخابرات ترجع في الحقيقة إلى ضعفها وحالة غياب القانون المتأصّلة فيها، ولم يتغيّر الحال في هذه الدول، إلا الشيء اليسير الذي لا يُذكر، منذ كتابات أيوبي وسيد عن هذا الموضوع. بل إن دولاً مثل الإمارات والسعودية قد سعت في السنوات الأخيرة إلى التغلغل أكثر في المجتمع من خلال سنّ ضرائب بسيطة. كما أن كلا هاتين الدولتين منهمكتان في حملات علاقات عامة ضخمة لتشييد سرديات تاريخية كبرى جديدة ومهام قومية، أقرب هي مما يبدو إلى قصور من رمال، بهدف شرعنة قبضة نخبها على السلطة. ولكن لن تستطيع هذه الدول أن تفكّ ارتباطها المتشعّب بنموذج الدولة الشركاتية/المخابراتية الضارية، إذ أن ذلك هو ما يضمن لهذه الأنظمة بقاءها. ولن يستطيعوا ذلك حتى لو أرادوا، فمن دون عون القوى العظمى واعتمادها على أجهزتها الاستخباراتية والتعذيب الممنهج، سيكون لشعوب هذه الدول أن تحشد نفسها وهو ما سيؤدّي على الأرجح إلى انهيار هذه الأنظمة.
صعود «الإسلام التقليدي» في خدمة الدول القومية ذات الغالبية المسلمة المنشأة حديثاً في آسيا الوسطى – ما وراء العالم العربي
هيمن إذاً نموذج الدول السلطوية والشركاتية والريعية على العالم العربي في العقود الأخيرة، كما بيّن القسم السابق. فضلاً عن ذلك، أطبقت هذه الدول الخناق على الحركات المعارضة وقيّدت حرية الفكر والتعبير (بالمفهوم الإسلامي) من دون وجه حق. وهذان مرتكزان رئيسيان لأي مجتمع مدني سليم، الذي يشكّل بدوره حجر زاوية الشرعية السياسية والحكومة المرتكزة على المجتمع. ولكن هل ينطبق ذلك أيضاً على الدول غير العربية ذات الغالبية المسلمة أيضاً؟ الواقع أن هذه الدول سعت في العقود الأخيرة إلى تسخير سطوة الدولة القومية لتحقيق مآربها الخبيثة على حساب الحكومة الرشيدة والوحدة والازدهار الأمتي. إلا أن تجلّيات ذلك في الكثير من دول آسيا الوسطى فيه ما يستحق النظر. فبدلاً من قيام هذه الدول بمنع المظاهر الإسلامية في الفضاء العام (أي تطبيق شكلٍ صارمٍ من أشكال اللائكية/laicism)، سعت هذه الدول، التي كانت فيما سبق جزءً من الاتحاد السوفيتي، إلى التغوّل على الإسلام ونزع جوانبه الأمتيّة والتحريرية منه، وتقديم نسخة بديلة أكثر لطفاً وقومية. وفي الواقع هذا البديل «التقليدي»، كما سنرى، لا يربطه بالإسلام التقليدي أي شيء تقريباً.
في بحث رصين يتناول حالة دولة أذربيجان، وهي دولة معلمنة إلى حد كبير ولعلها أيضاً ليست أول ما يخطر على البال إذا أراد المرء دراسة أمثلة على مبادرات إصلاح للإسلام تقودها الدولة، تبيّن صوفي بيدفورد وجيهون محمودلو وشامكل أبيلوف (Sofie Bedford, Ceyhun Mahmudli and Shamkhal Abilov) كيف ركّزت الحكومة الأذربيجانية على «إرساء أسس سردية إسلامية بديلة معتدلة ونشرها لحماية التجسيد الأذربيجاني القومي للإسلام» بدلاً من «الاستهداف المادي لمصادر الراديكالية الإسلامية العنيفة ومحاولة إقصائها».49 وفي سعيها لذلك احتضنت الحكومة الأذربيجانية على مدار العقدين الماضيين إسلاماً متوائماً مع توجّهات الدولة أُطلق عليه اسم Ənənəvi İslam، التي تُترجم بحرفيتها إلى الإسلام التقليدي.
ووفقاً لغوندوز إسماعيلوف (Gunduz Ismayilov)، نائب رئيس لجنة الدولة المعنية بالتنسيق مع المنظّمات الإسلامية في جمهورية أذربيجان، فإن الإسلام التقليدي «هو إسلامٌ محليٌّ صَرْف ويناهض الإسلام المستورد من الخارج»، والأهم من ذلك هو «الخيار الوحيد الذي تنحصر فيه السياسة الدينية التي اعتمدتها الحكومة الأذربيجانية».50 وفي بادئ الأمر «قُدّم الإسلام التقليدي لصدّ سبل الراديكالية في سبيل حماية هوية أذربيجان القومية بصفتها دولة علمانية»، وهي تشترك مع شبيهاتها من مبادرات محاربة الراديكالية القومية في نواحٍ كثيرة، إلا أن الحكومة الأذربيجانية تسعى لتحقيق ذلك دون المجاهرة بالإسلاموفوبيا وبطرق أقل تهديداً.51 ويقوم ذلك على فكرة: أنّ الامتثال للإسلام الأذربيجاني السوي هو من صلب الوطنية، فإياك أن تتخلّف عن الركب (وليس هناك فعلياً خيارٌ آخر). ولكن يشوب اصطلاح «الإسلام الأذربيجاني السوي» العديد من التناقضات العقائدية التي لا يمكن تجاوزها، وهذا ما يُفرغ هذه الفكرة من أي معنىً حقيقي، إلا أن الإسلام الأذربيجاني السوي هو ما ترى الحكومة الأذربيجانية أنه الإسلام المقبول، وهذا تماماً ما تسعى الحكومة إلى تحقيقه.52
إنّ الإسلام التقليدي في أذربيجان هو نتاج ثنائية ألِفها ووعاها جميع من عاشوا في الدول التي قامت على أنقاض الاتحاد السوفيتي، وهي ثنائية الدين الرسمي (المحمود) مقابل الدين المستقل (التخريبي والمستقبح)، وكما يبيّن بيدفورد ومحمودلو وأبيلوف، فإن «الإسلام التقليدي بُني لترسيخ سيطرة الدولة على المساحة الدينية، وبذلك يحول دون تطوّر أي معارضة قائمة على أفكار دينية ضد النظام السلطوي».53 وصحيحٌ أن هذا ظهر في وقت حديث نوعاً ما في أذربيجان، إلا أن ما يمكن تسميّته بـ«إعادة الإسلام إلى رداء التقليدية» هي فكرة حاضرة في آسيا الوسطى في فترة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي منذ فترة وبأشكال متعدّدة. يرى سبياستيان بيريوس (Sébastien Peyrouse) أنه:
يُوجد عاملان مشتركان في السياسات الدينية التي ظهرت في البلاد التي قامت على أنقاض الاتحاد السوفيتي. أولهما أن السلطات تنزع إلى تحديد دين «وطني»، مع إظهار الاحترام للأديان الأخرى التي تُوصف بأنها تقليدية، ولكنها ستهمّش الحركات التي تُعتبر أجنبية. وثانياً، سيظهر على هذه الدول الخوف من بروز الجوانب السياسية للإسلام سواءً في حال كان الإسلام دين أقلية (مثل روسيا مثلاً)، أو دين الأكثرية (مثل آسيا الوسطى وأذربيجان).54
بات الإسلام التقليدي في السنوات الأخيرة «أداة خطابية فعّالة تُستخدم في سياق الحكومة» في روسيا.55 ولعل من أبرز تجلّيات استخدام هذا الخطاب هو وجود مسلمين موالين لرمضان قديروف (Ramazan Kadyrov)، زعيم الشيشان المستبد الموالي لفلاديمير بوتين (Vladimir Putin)، يقاتلون مسلمين شيشانيين وأوكرانيين يعادون قديروف، في خضم الحرب التي شنّها بوتين على أوكرانيا. 56
وعملياً، يؤدّي ما يُطلق عليه «إسلام تقليدي» أمرين اثنين في آنٍ معاً، فهو يحافظ على سيطرة الدولة الوطيدة على صيرورات الدين «الرسمي» و«السوي»، ويقلّل من احتمالية ظهور حركات معارضة. فبدلاً من لجوء الدولة إلى سياسات فجة وفظَّة قد يراها البعض غير إسلامية، يمكن لها أن تستخدم الإسلام نفسه لشرعنة أعمالها غير المشروعة. ولا يوجد من الأسباب ما يرجّح أن الدول القومية في العالم المسلم ستتورّع يوماً ما عن استعمال الدين بما يخدم مصالحها المادية، حتى لو كانت هذه المصالح تتعارض مع مبادئ الإسلام السياسية. وكما يبيّن عويمر أنجم (Ovamir Anjum): «الآراء والمؤسّسات الدينية تخضع لسلطة الدولة، وليس العكس».57 فإذا كانت الدولة هي الإسلام والإسلام هو الدولة، فيقتضي ذلك أن معارضتك لأحدهما هي معارضة للآخر لأنهما جوهر واحد. وقد ضرب هذا النوع من الإسلام القومي-الساكن جذوراً عميقة له في العالم العربي، ولا يوجد من الأسباب ما يدفع إلى الاعتقاد أن هذا سيتغيّر قريباً ما دامت الدولة القومية هي النموذج الوحيد المقبول. فالحوار المفتوح والوحدة الأمتيّة العابرة للحدود كلاهما يهدّدان ويتصادمان تصادماً مباشراً مع الأهداف المنغلقة لإسلام قومي-ساكن ترعاه الدولة الذي تحاول النخب السياسية تقديمه وتصديره اليوم لشعوبها في الدول التي قامت بعد الاتحاد السوفيتي ودول الشرق الأوسط في فترة ما بعد الربيع العربي.
التزاوج بين الشركاتية السلطوية المدعومة من الغرب و«الإسلام التقليدي»- النتيجة المنطقية للدولة القومية ذات الغالبية المسلمة في عصرنا
سأحاول في هذا الجزء من المقالة، مع اقترابنا من خواتيمها، أن أربط بين الاصطلاحين (Construct) الذين تناولتهما في القسمين السابقين، أي الشركاتية السلطوية والإسلام التقليدي، وأرى أن التزاوج بين هذين الاصطلاحين، بدعم من القوى الغربية الكبرى، هو، بصورة أو بأخرى، النهاية المنطقية لمعظم الدول القومية ذات الغالبية المسلمة اليوم بحكم تبعيتهما التاريخية. وعقدة هذا التزاوج بين الشركاتية السلطوية والإسلام التقليدي في هذه الدول هو ما يُطلق عليه ولاء قصي وتوماس باركر (Walaa Quisay and Thomas Parker) «عقيدة الطاعة»، ولعل أفضل ما يشرح هذه العقيدة قول حمزة يوسف: «نحن لا نقبل بأي خروج على حكّامنا أو شأننا العام، حتى لو كانوا قمعيين، وهذه هي عقيدة المسلمين».58 وعقيدة الطاعة هي النتيجة المنطقية لتركيز الإسلام التقليدي على الاستقرار المعرفي والميتافيزيقيا التي تقدّس التراتبية، وعلى ذلك يعلّق قصي وباركر:
في«التراث»، لأن المسلمين يؤمنون بوجود نظام وحكمة من خلق الكون، فإنهم أيضاً يقرّون بالسلطة والتراتبية. ومدلول ذلك أن المعارضة السياسية اليوم، مثل الربيع العربي، هي بذلك تهديد للنظام، بل وزعزعة لسنن الكون.59
ويمكن إسقاط أفكار قصي وباركر عن المعارضة، وأنها تهديد للنظام العام، على حالات من خارج سياق الربيع العربي أيضاً. ومما يثير الاهتمام على وجه الخصوص الكلمات التي اختار بها حمزة يوسف وصف موقف السكون من الخروج على الحاكم، بقوله إنه جزء من «عقيدة المسلم».60 فالعقيدة في الإسلام مصطلح يشمل جميع المعتقدات الأساسية الدينية التي يجب على كل مسلم الإيمان بها. وهو بذلك يقول إن رفض الخروج على الحاكم، مهما كان سيئاً، ليس مسألة اجتهادية فيها نظر، أو أن هذا الموقف هو موقف مشروع ولكن من بين العديد من المواقف الذي يمكن للمسلم العمل به في مسائل كهذه. بل إن يوسف يقول أن موقف السكون، أو يمكن أن نختصره بمقولة مشهورة في السياق الإسلامي «ترك الأمر لأهله»، يجب أن يكون جزءً من معتقدات المسلم الأساسية، وليس حتى جزء أو شريحة من المسلمين، وإنما المسلمون جميعهم.
تُعدُّ هذه السكونية المفرطة في مسألة الخروج على الحاكم أو السلطة السياسية موقفاً متطرّفاً في الإسلام. فهي تختزل اختزالاً مخلّاً التفاصيل والمواقف الدقيقة التي فصّلها الموقف التقليدي في الإسلام، الذي يقوم على تحريم أو التحذير من الخروج في العديد منها لظروف ولكن تسمح به وتدعو له، ضمن شروط، في ظروف أخرى، فضلاً عن أنها تأتي على مغالطة كارثية بإلحاق أي نوع من أنواع المعارضة النشطة لنظام قمعي، ومن صور ذلك إنكار المنكر كمناصحة أمراء الجور أو الاحتجاجات السلمية أو العصيان المدني، بخطاب تحذير الخروج على الحاكم. والأهم من ذلك أن هذا الموقف لا يٌلقي بالاً لشرعية الحاكم، وما إذا كانت النصوص التي تحرّم الخروج تنطبق على الأنظمة التي تغلب عليها العلمانية أصلاً.61
بات موقف الطاعة الشديدة موقفاً دارجاً بين بعض التقليديين الجدد (Neo-Traditionalists)، وهو يتماشى مع تحليل ديفين وورين (David Warren) لشيخ حمزة يوسف العالم الموريتاني الشهير عبد الله بن بيه وفهمه للديمقراطية والقدح في ذوي المقامات العليا (lèse-majesté). فبحسب وورين، فإن بن بيه ينظر إلى الديمقراطية على أنها «طريقة حكم معاصرة، وليست وراء ذلك أي شيء»، وأن «الاحتجاج أو السعي لمحاسبة حاكم أو رئيس دولة عبر الإعلام هو أمر لا يصحّ لأن مسألة نصيحة ولي الأمر تختلف عن نصيحة الناس الآخرين، ولا بد أن تكون بلين واحترام».62
لا تقوم المواطنة في دول الخليج على المفاهيم الغربية من حقوق فردية وحريات، وإنما تقتضي المواطنة الصالحة، في تلك البلدان السكون والطاعة باسم الأمن القومي والنظام العام، وأيضاً الإسلام التقليدي كما يرونه، وخصوصاً في أمور السياسات الداخلية والخارجية.63 بل إن الكثير من أشدّ العقوبات التي تطبّقها دول الخليج تكون من نصيب الذين ينتقدون علناً قرارات الحكّام في السياسات الخارجية. وقد ذكر تقرير لمنظّمة العفو الدولية من عام ٢٠٢١م أن «الإمارات لا تزال تحتجز معتقلين بعد انتهاء فترة محكوميتهم بناء على أحكام من المحكمة صدرت تحت غطاء قوانين المناصحة المرتبطة بمكافحة التطرّف، ولا يمكن استئناف هذه الأحكام ». 64 وليس ذلك مفاجئاً، لأن صون رضا الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى هو أمر لا غنى عنه لبقاء النظام، وما الطريقة الأمثل لذلك من الظهور بمظهر النشط الحريص على مكافحة التطرّف؟ يعرف زعماء الإمارات تمام المعرفة أن بقاءهم على المدى الطويل يعتمد حتى اليوم على الولايات المتحدة، وإن رأت حكومة واشنطن أن الإمارات لا تقدّم الدعم بالصورة الكافية لسياستها الخارجية وأجندتها الأمنية، فمن المستبعد أن يتحرّك الجيش الأمريكي ويتدخّل لدعمهم في حال حدثت اضطرابات داخلية أو إن قرّر الحوثيون أو القوات الإيرانية العسكرية استهداف بنية الإمارات التحتية بالصواريخ ردّاً على الحملة العسكرية الحالية في اليمن التي تشارك فيها الإمارات.
يتضح إذاً أن الإسلام التقليدي والشركاتية السلطوية يتمّمان بعضهما البعض، فالشركاتية السلطوية ترتكز على طاعة الدولة واتباع إرشاداتها في أمور التجارة والاستثمار. وسماح الدولة للأعمال التجارية أن تُسيّر دون مباركتها وإذنها يُضعف من قدرتها على السيطرة، والدول القومية ذات الغالبية المسلمة في يومنا هذا مضطرة إلى إحكام قبضتها على الأمور الاجتماعية والاقتصادية إذا أرادت البقاء واقفة على قدميها. ونتيجة لذلك يكاد مصطلح «مواطن» لا ينطبق على أبناء هذه الدول على الإطلاق، إذ أنهم أقرب إلى محكومين. وفي إشارة حصيفة من حلّاق، يقول الكاتب أن مفهوم المواطنة في العالم المسلم لا يزال مختلفاً كثيراً عن مفهوم المواطنة في الغرب: «فالمفهوم النموذجي للمواطن، الذي لا تقدر دولة على الاستمرار من دونه، ظهر بشكل بطيء [في العالم المسلم]، كما أن الفراغات السياسية الباقية بعد انهيار البنى التقليدية لم تُملأ بشكل مناسب».65 إنّ الصيرورات التاريخية في فترة ما بعد الاستعمار في معظم الدول ذات الغالبية المسلمة تجعل قيام أي نظم بديلة لنظام الحاكم والمحكوم الذي أشرنا إليه سابقاً أقرب للمستحيل.
على الرغم من ترسّخ نظام الحاكم والمحكوم واستمراريته في كثير من أنحاء العالم المسلم، نجد أن الدول ذات الغالبية المسلمة، في الوقت نفسه، لا تفوّت فرصة للحديث بإيجابية عن مفهوم المواطنة، ولو أنها تريد مفهوماً للمواطنة مفصّلاً على قياسها. وينوّه قصي وباركر إلى أن مفهوم المواطنة والدولة القومية باتا اليوم موضوعين رئيسين من الموضوعات التي يركّز عليهما فعاليات منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة المدعوم من الإمارات العربية المتحدة. ويقول باركر وقصي إنّ أحدث المتحدّثين في هذه الفعاليات قد وصف الدولة القومية الحديثة بأنها «المقصد السادس من مقاصد الشريعة».66 يدلّل ذلك إلى توجّهات بعض الدول القومية الأوتوقراطية ذات الغالبية المسلمة التي تعيش في حالة من الاستقرار، كالإمارات مثلاً، بإضفاء هالة من التقديس على الدولة القومية. أي أن هذا الوصف، الدولة القومية، لم يعد مجرد وصف تجريدي لأحد أطوار التنظيم السياسي، وإنما غاية فُضلى إيجابية بحد ذاتها، وهي غاية إسلامية، أو على الأقل لا تقلّ في مكانتها الإسلامية عن صور التنظيم السياسي التي كانت قائمة في العالم الإسلامي في العصور التي سبقت العصر الحديث. وفي هذا المقام يمكن اقتباس رأي آخر لعبد الله بن بيه:
إنّ الدولة القومية، بكل أشكالها وصورها الموجودة في العالم الإسلامي، هي نظام حكم شرعي وصالح. وما دامت هذه الدولة تقوم على جلب المصالح ودرء المفاسد، وهو المحور الذي تتمحور حوله جميع قوانين الإسلام، فهي لا تقلّ في شرعيتها عن الإمبراطوريات المسلمة التي قامت في الماضي.67
وإذا أقررنا بأن الدولة القومية باقية في المستقبل، فإنّ هذه الدول مضطرة إلى إيجاد وصياغة صورة من صور المواطنة، لأن أعتى الحكّام الأوتوقراطيين لا يستطيعون إهمال حقيقة أن الدولة القومية ترعى، ولو في الظاهر على الأقل، مواطنين وليس محكومين.
لا شكّ أن القول بأن الدولة القومية الحديثة هي مقصد جديد سادس من مقاصد الشريعة هو قول عجيب مبتدع، خصوصاً أن الدولة القومية الحديثة نفسها لم يكن لها وجود في الجزء الأكبر من تاريخ الحضارة الإسلامية الممتد إلى أكثر من ١٤٠٠ عام. ولكن، وكما أشرنا في المقدّمة، فإن تشييد أطر تاريخية وغايات جديدة من العدم هو أحد الوظائف الرئيسية للدولة القومية الحديثة. وفي نهاية الأمر، إن استفادت النخب الحاكمة في معظم الدول القومية ذات الغالبية المسلمة استفادة كبيرة من نموذج الدولة القومية، فلماذا عساهم يرغبون برؤية أي نظام مختلف؟
في ختام هذه المقالة، أودّ المرور سريعاً على نزعة جديدة في المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وهي تطبيع العلاقات مع إسرائيل، الذي أصبح ضلعاً لا يُستغنى عنه في عقد الانضمام إلى صفوة الدول القومية ذات الغالبية المسلمة في السنوات الأخيرة. وقد أصبح أيضاً أحد أهم متطلّبات بقاء الأنظمة ولو على حساب شعوبها المسلمة. وكما يقول جون هوفمان (Jon Hoffman)،
إنّ مشروع إسرائيل الأبارتيدي واستمرارية الأوتوقراطيات العربية الإقليمية يرتبطان معاً اليوم ارتباطاً حميمياً. وقد رسم هذا التحالف بين الأبارتيد والأوتوقراطية معالم شرق أوسط جديد هو أشد إقصائية وقمعية، مع ترسيخ السلطوية في الإقليم وهيمنة إسرائيل على فلسطين.68
لا شكّ أن الانضمام إلى هذه التحالفات المنبثقة من الاتفاقيات الإبراهيمية التي يتصدّرها جاريد كوشنر (Jared Kushner) ستعود على الدول ذات الغالبية المسلمة بمكاسب مادية وجيوسياسية فورية، ولكنها أيضاً من صلب التزاوج الذي أشرنا إليه سابقاً بين ثقافة الطاعة والإسلام التقليدي الذي تصيغه الدول على هواها. فيمكن النظر إلى الموافقة على التطبيع مع إسرائيل على أنه أحد طرق تهذيب الشعوب المحلية وزرع مجموعة من القيم الاجتماعية-السياسية العلمانية القومية في نفوسها.
تنادي هذه الاتفاقيات بالتسامح والتعايش السلمي بين أبناء الأديان المختلفة، ولكن هذا الحوار الذي تحكي عنه الاتفاقيات الإبراهيمية والذي سيجلب سلاماً مستداماً، كما تزعم، هو سلام بين الدول وليس بين الشعوب والأديان: «نحن نؤمن بأن الطريقة الأمثل للتعامل مع التحدّيات هي التعاون والحوار، وأنّ تطوير علاقات صداقة بين الدول سيدفع بمصالح سلام مستدام في الشرق الأوسط وحول العالم».69 إنّ الاتفاقيات الإبراهيمية، وجهود التطبيع بصفة أوسع، هي عملية مفروضة من أعلى هرم السلطة إلى أسفله تقودها النخب. وهي، بتعبير هوفمان: «تمثّل عملية إضفاء طابع الرسمية على نظام سياسي واقتصادي وأمني قسري صُمّم للحفاظ على الوضع الراهن في الإقليم»، كما أنها تمثّل «اصطلاحاً صناعياً لا يُصان إلا بقدرٍ عالٍ من الإقصاء والقمع والمراقبة والضمانات الأمنية من أكبر القوى العالمية».70 وحقيقة الأمر أن الاتفاقيات الإبراهيمية تجبر الدول ذات الغالبية المسلمة على الدخول في معادلات النظام الدولي واعتناق هوية الدولة القومية المعلمنة، التي باتت الوحدة التي تجسّد هوياتهم. فالانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية يعني ضرورةً الانسلاخ عن الهوية الإسلامية العابرة للحدود والمعايير السياسية الأخلاقية الأساسية في ما هو أقرب إلى أن يبيع الإنسان روحه للشيطان كما تحكي قصة فاوتس (Fatus) الشهيرة، وتعني أيضاً قبول شروط التفاعل السياسية الغربية على حساب القضية الفلسطينية والوحدة الأمتيّة.
خاتمة
إذا مررنا على كل الدلائل والقرائن، فإن الخلاصة الوحيدة المعقولة هي أن السعي إلى إقامة حكم إسلامي تمثيلي، ولعلي أقول «شرعي»، في العالم المسلم من داخل بوتقة الدولة القومية الحديثة هو أمر غير واقعي. فمع نهاية شهر تموز/يوليو ٢٠٢٢، سنكون قد شهدنا وأد آخر الانتفاضات العربية الصامدة في تونس، نفسها التي شهدت ميلاد الربيع العربي قبل عقد من اليوم، حيث تم الإعلان عن استفتاء دستوري قاطعته معظم شرائح الشعب التونسي، بل إن هذا الاستفتاء لم يكن نزيهاً وديمقراطياً، حتى أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن (Anthony J. Blinken) لم يجد بدّاً من إصدار بيان رسمي يدين الاستفتاء، قال فيه إنّ «الدستور الجديد [في تونس] يحدّ من مساحات المناظرة الحرة، وأنّ هذا الدستور الجديد قد يُضعف الروح الديمقراطية في تونس ويقوّض احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية».71 وربما لن يتفاجأ المرء إن قرّر الأوتوقراطي التونسي الطموح قيس سعيد أن يسعى إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل لتلميع صورته مع الولايات المتحدة، خصوصاً أن هذه الخطوة قد أثبتت نجاعتها من قبل عندما أقدم عليها الأوتوقراطيون الآخرون في الإقليم.
تكمن اختلافات أخلاقية وثقافية متأصّلة في صلب استحالة تحقيق الوحدة الأمتيّة ضمن نموذج الدولة القومية:
ينبع الكفاح السياسي والقانوني والثقافي لمسلمي اليوم من قدر من غياب الانسجام بين تطلّعاتهم الأخلاقية والثقافية من جهة والواقع الأخلاقي للعالم الحديث من جهة أخرى، وهو واقع لا بد لهم من العيش فيه، وإن كانوا لم يصنعوه بأنفسهم.72
إنّ نموذج الدولة القومية الذي قام في أعقاب معاهدة ويستفاليا هو نموذج صنعه الغرب للغرب، ويمكن فهمه على أنه نموذج متجذّر في جملته في الهيمنة والسيطرة. وكما يشير الألماني ماكس شيلر (Max Scheler)، الهامة الكبيرة في علم الظواهر من بدايات القرن العشرين، تنطوي العقلية الغربية الحديثة، على خلاف نظيرتها الشرقية، على «ميتافيزيقيا [فيها من الغرابة ما فيها] ترتكز على وعي مختلف تماماً للذات، وتأويل مختلف تماماً للإنسان نفسه بالنظر إلى توقّعها أن تكون سيادة السيد فوق الطبيعة بأكملها».73 فالبنية الفكرية التي تماهت بداخل الروح الغربية منذ عصر النهضة «انبثقت من افتراض عقلي قبلي [A priori] يتمحور، في إرادته وقيمه، حول الرغبة في السيطرة على العالم المادي».74 والقصد من ذلك أن الغرب سعى، منذ عصر النهضة، إلى تغذية معرفته لغاية رئيسية هي تحويل العالم المادي والسيطرة عليه. ولم يُرد الإسلام مطلقاً إيجاد هذه العلاقة العدائية مع الطبيعة أو العالم المادي. وعلى ذلك، ليس مستغرباً أن تحاكي النماذج السياسية الأوروبية المقاربة الأوروبية العامة للعالم الطبيعي الذي يجب، كما تريد هذه العقلية، أن يكون تحت سيطرتها مهما كانت الطريقة.
وينوّه حلّاق إلى هذا الشدّ المتأصّل بين المجتمع الحقيقي والدولة القومية الحديثة:
ففي الإسلام، تحلّ الجماعة (الأمة) محل شعب الدولة القومية الحديثة. والأمة شيء مجرّد ومادي في آن معاً، لكنها في كلتا الحالتين محكومة بالقواعد الأخلاقية ذاتها…وفي حين أن الدولة القومية هي غاية الغايات ولا تعرف إلا ذاتها، ما يجعلها ميتافيزيقيا الأساس الأسمى للإرادة السيادية، فإن الأمة وأعضاءها الفرادى وسيلة لغاية أعظم.75
إنّ الغاية الأسمى (raison d’être) لأي نموذج تنظيم سياسي إسلامي تنبثق من إقامة الشريعة ورعاية مصالح مجتمعه ضمن إطار الشريعة، أما الغاية الأسمى للدولة القومية فهي ديمومتها بالمعنى المباشر والحرفي للكلمة. وقد كان هذا هو الحال حتى في ما يُسمّى با«الدول الإسلامية»، ولعل أبلغ ما يدلّ على ذلك هو التصريح، الذي أثار الكثير من الجدل وقت صدوره، لأول مرشد لجمهورية إيران الإسلامية «الحكومة، التي كانت جزءً من الخلافة المطلقة للنبي، هي أهم الأحكام في الإسلام، وتُقدّم على جميع الأحكام الثانوية الأخرى، حتى الصلاة والصيام والحج».76 وقد قال الخميني هذه الكلمات قبل عامين من وفاته. وبتعبير حميد مافاني (Hamid Mavani)، فإن الخميني بذلك رفع «الحفاظ على الدولة [إلى حكم أولي] وأنزل منزلة الشعائر (أي الصلوات المفروضة وصوم الفريضة) [إلى أحكام ثانوية]».77 وهو بذلك قد حسم الصيرورة التي ستحكم مسار الدولة الإيرانية في العقود اللاحقة. وليس هناك من الأسباب ما يدفعنا للاعتقاد أن «جمهورية إسلامية» لا تستطيع استخدام ذات المنطق، وهذا المنطق أن الدولة القومية تسمو فوق الخلافات الطائفية والعقدية.
إن تجلّي الدولة القومية الحديثة في كثير من أجزاء العالم الإسلامي قد كان على شكل الشركاتية السلطوية المتزاوجة مع تصوير مشوّه لـ«إسلام تقليدي» يتمحور حول الدولة، وكلٌّ من هذين الضلعين ينفيان الوحدة الأمتيّة. وهذا ما يجب تماماً أن نتوقّعه من مشروع سياسي لم يُرد له أن يكون للمسلمين وأطوار معرفتهم ووجودهم في العالم. ولا يوجد ما يدفع للاعتقاد بأن هذا سيتغيّر في أي وقت قريب. بدأتُ رحلة أطروحتي قبل عقد تقريباً، واليوم أجد نفسي وصلت إلى نتائج مختلفة بالكلية في الإجابة على سؤال الطريق الأعقل للمسلمين الذين يسعون إلى استعادة استقلاليتهم وهويتهم الإسلامية والانعتاق من قيود الأوتوقراطية المتحجّرة. فالحقيقة ليست أن المسلمين غير قادرين على إيجاد وإدارة نظام سياسي إسلامي عادل وتمثيلي بسبب قصور أصيل فيهم، بل إن هذا النظام لا يمكن إيجاده تحت نموذج الدولة القومية. فقد تعامل نموذج الدولة القومية بعداوة شرسة مع محاولات ظهور أي طَور سياسي كهذا في مختلف المستويات. لا بد للمسلمين أن يفكّروا خارج الحدود القمعية المتخيّلة للدولة القومية الحديثة إذا أرادوا استعادة ذاتهم الأمتيّة.
* * *
الاقتباس المقترحة:
جوزيف كامينسكي، «فشل لا يمكن إصلاحه: الدولة القومية الحديثة كمعطِّل للوحدة الأمّتية»، ترجمة أنس خضر، أمّتكس، ٣١ أغسطس٢٠٢٥، https://ar.ummatics.org/irredeemable-failure
هوامش
-
Dhruti Shah, “Arab Spring: It was the first time I felt I belonged,” BBC News, December 26, 2011, https://www.bbc.com/news/world-middle-east-16275176.
- وجد البروفيسور خالد أبو الفضل أن هذا الكتاب جاء في وقته المناسب، وقال في التمهيد الذي كتبه لهذا الكتاب: «حظي موضوع الإسلام والحكومة بتركيز كبير منذ نهاية عصر الإمبراطوريات وصعود الدول القومية»، و«من بين الأعمال الكثيرة التي كُتبت في هذا المجال كانت مساهمة جوزيف كامينسكي مساهمة ضرورية وشاملة ورفيعة ولا يمكن تجاوزها.» انظر:
Khaled Abou El Fadl’s preface in Joseph J. Kaminski, The Contemporary Islamic Governed State: A Reconceptualization (New York, NY: Palgrave, 2017), vii.
-
Jonathan Laurence, Coping with Defeat: Sunni Islam, Roman Catholicism, and the Modern State (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2021), 435.
- المصدر السابق.
- لمزيدٍ من التفصيل عن محاججة «إغلاق باب الاجتهاد»، انظر:
H.A.R Gibb, Modern Trends in Islam (Chicago, IL: University of Chicago Press, 1947); Joseph Schacht, An Introduction to Islamic Law (London, UK: Oxford University Press, 1964); J.N.D. Anderson, Law Reform in the Muslim World (London, UK: Athlone Press, 1976), and N.J Coulson, A History of Islamic Law (Edinburgh, UK: Edinburgh University Press, 1978).
- للمزيد عن هذه الفكرة، انظر:
Timur Kuran, Islam and Mammon: The Economic Predicaments of Islamism (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2004), and Timur Kuran, The Long Divergence: How Islamic Law Held Back the Middle East (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2011).
- انظر مثلاً:
Michael A. Reynolds, Shattering Empires: The Clash and Collapse of the Ottoman and Russian Empires 1908–1918 (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2012).
- انظر مثلاً:
Mostafa Minawi, The Ottoman Scramble for Africa: Empire and Diplomacy in the Sahara and Hijaz (Stanford, CA Stanford University Press, 2016).
- للاطلاع على بعض الأعمال الجيدة التي تناولت ثورات ١٨٤٨، انظر:
Sperber, The European Revolutions, 1848–1851, 2nd ed. (Cambridge, UK: Cambridge University Press, 2005), and Mike Rapport, 1848: Year of Revolution (New York, NY: Basic Books, 2009).
- انظر:
Pius PP. IX, Quanta cura. Romae, 1864, https://www.vatican.va/content/pius-ix/la/documents/encyclica-quanta-cura-8-decembris-1864.html.
للمزيد عن حقبة بابا بيوس التاسع، انظر:
David I. Kertzer, The Pope Who Would Be King: The Exile of Pius IX and the Emergence of Modern Europe (New York, NY: Oxford University Press, 2018).
للاطلاع على نقد لفكرة العصمة البابوية، انظر:
Hans Küng, Infallable? An Inquiry, trans. Edward Quinn (Garden City, NY: Doubleday & Co. Inc, 1983).
-
Laurence, Coping with Defeat, 3.
انظر أيضاً:
“The Sultan and the Pope,” New York Times, October 29, 1859, p. 4.
- انظر:
Mona Hassan, Longing for the Lost Caliphate: A Transregional History (Princeton: Princeton University Press, 2016).
-
Israel Gershoni and James Jankowski, Egypt, Islam, and the Arabs: The Search for Egyptian Nationhood, 1900– 1930 (New York, NY: Oxford University Press, 1986), 5.
اقتُبس أيضاً في:
- للاستزادة عن القرن التاسع عشر الطويل، انظر الثلاثية الأدبية الرائعة لإريك هوبزبون عصر الثورة ١٧٨٩-١٨٤٨م، وعصر رأس المال ١٨٤٨-١٨٧٥م، وعصر الإمبراطورية ١٨٧٥-١٩١٤م:
Age of Revolution: 1789-1848. (New York, NY: World Publishing, 1962), The Age of Capital: 1848-1875 (New York, NY: Charles Scribner’s Sons, 1975), and The Age of Empire: 1875-1914 (London, UK: Weidenfeld & Nicholson, 1987).
- للاستزادة عن استعمال الوهابية في محاربة الدولة العثمانية في القرن العشرين، انظر:
David Commins, The Wahhabi Mission and Saudi Arabia (London, UK: I.B. Taurus, 2009).
- المصدر السابق، ص. ٣٩٤.
-
Connie Bruck, “The Politics of Perception,” New Yorker, October 9, 1995, https://archives.newyorker.com/newyorker/1995-10-09/fl ipbook/051
- للمزيد عن القومية العربية، انظر:
Youssef M. Choueiri, Arab Nationalism: A History. Nation and State in the Arab World (Oxford, UK: Wiley-Blackwell, 2000), and Lahouari Addi, Radical Arab Nationalism and Political Islam, trans. Anthony Roberts (Washington, DC: Georgetown University Press, 2017).
-
Hussein Ali Agrama, Questioning Secularism: Islam, Sovereignty, and the Rule of Law in Modern Egypt (Chicago, IL: University of Chicago Press, 2012), 31.
انظر أيضاً:
Talal Asad, Formations of the Secular: Islam, Christianity, and Modernity (Stanford, CA: Stanford University Press, 2003).
-
Nader Hashemi, “Rethinking Religion and Legitimacy Across the Islam-West Divide,” Philosophy and Social Criticism 40, nos. 4–5 (2014), 444.
صحيحٌ أن هاشمي ينتقد فرض العلمانية من أعلى هرم السلطة في الحالة العربية، ولكنه في الوقت ذاته لا يُخفي دعمه الكبير لتنمية روح الليبرالية العلمانية، بطريقةٍ عضويةٍ، في الدول القومية ذات الغالبية المسلمة. ويذهب هاشمي إلى أن الجماعات الإسلامية في هذه الدول تحتاج إلى «تطوير نظرية سياسية للعلمانية تتماشى مع الشروط العملية الأساسية التي تستلزمها الديمقراطية الليبرالية وعقيدتهم السياسية الخاصة». انظر:
Nader Hashemi, Islam, Secularism, and Democracy: Towards a Democratic Theory for Muslim Societies (New York: Oxford University Press, 2009), 172
وقد فصّلت الإشكاليات التي ينطوي عليها طرح هاشمي في عملي السابق الذي حاججت فيه أن موقفه يتلخّص في «صناعة إسلامٍ غير الإسلام» لأن هاشمي يُلزم المسلمين بإعادة التفكير بـ«الأفكار الدينية التي تمسّ مواضيع الحقوق الفردية والقواعد الأخلاقية للسلطة السياسية الشرعية». انظر:
Kaminski, The Contemporary Islamic Governed State, 76.
أزعمُ أيضاً أن الحقوق الفردية والقواعد الشرعية للسلطة السياسية هما أمران يحتّمان أن الإسلام مذهبٌ يتصادم مع أنماط الفكر والعمل السياسي التي تشكّلها الأفكار الليبرالية الديمقراطية الحديثة ويتمايز عنها. انظر أيضاً:
Joseph J. Kaminski, Islam, Liberalism, and Ontology: A Critical Re-evaluation (New York, NY: Routledge, 2021).
- سلمان سيّد، «استعادة الخلافة: تفكيك الاستعمار والنظام العالمي»، ترجمة محمد السيّد بشرى (بيروت، لبنان: الشبكة العربية للأبحاث والنشر)، ص. ٧٠.
- نزيه الأيوبي، «تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط»، ترجمة أمجد حسين (بيروت، لبنان: المنظّمة العربية للترجمة، ٢٠١٠). ص. ٣٦
- انظر:
Lipset, “Some Social Requisites of Democracy: Economic Development and Political Legitimacy,” American Political Science Review 53, no. 1 (1959), 69–105.
- وائل حلّاق، «الدولة المستحيلة»، ترجمة عمرو عثمان (الدوحة، قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٤)، ص. ٣٠-٣١.
-
Matthew Gray, “A Theory of “Late Rentierism” in the Arab states of the Gulf,” Scholarly Paper (Doha, Qatar: Georgetown University Center for International and Regional Studies, 2011), 1.
- المصدر السابق. للمزيد عن الريعية (أو الدول الريعية) في العالم المسلم، انظر:
Hazem Beblawi, “The Rentier State in the Arab World,” Arab Studies Quarterly 9, no. 4 (1987), 383–398; Hossein Mahdavy, “Patterns and Problems of Economic Development in Rentier States: The Case of Iran,” in M.A. Cook (ed.), Studies in the Economic History of the Middle East, 1st ed. (London, UK: Routledge, 1970), 428–467; Michael L. Ross, “Does Oil Hinder Democracy?” World Politics 53, no. 3 (2001), 325–361.
-
James Quinlivan, “Coup-Proofing: Its Practice and Consequences in the Middle East,” International Security 24, no. 2 (1999), 133.
- انظر:
“Defense Spending by Country 2022,” https://worldpopulationreview.com/country-rankings/defense-spending-by-country.
للمزيد عن التحصّن من الانقلابات، انظر:
Stephen Biddle and Robert Zirkle. “Technology, Civil-Military Relations, and Warfare in the Developing World,” The Journal of Strategic Studies 19, no. 2 (1996), 171–212; Ahmed Hashim, “Saddam Husayn and Civil-Military Relations in Iraq: The Quest for Legitimacy and Power,” The Middle East Journal 57, no. 1. (2003), 9–41; Tobias Böhmelt and Ulrich Pilster, “The Impact of Institutional Coup-Proofing on Coup Attempts and Coup Outcomes,” International Interactions 41, no. 1 (2015), 158–182; Andrew W. Bausch, “Coup-Proofing and Military Inefficiencies: An Experiment,” International Interactions 44, no. 1 (2018), 1-32; Derek Lutterbeck, “Coup-Proofing in the Middle Eastern and North African (MENA) Region.” Oxford Research Encyclopedia of Politics (Oxford, UK: Oxford University Press, 2021), 1–15.
- مقابلة مع فالي ناصر أجراها وورن هوج، معهد السلام الدولي، ٢٦ كانون الثاني/يناير ٢٠١٠، https://www.ipinst.org/images/pdfs/transcript_valinasr.pdf, 7.
-
Vali Nasr, Forces of Fortune: The Rise of the New Muslim Middle Class and What It Will Mean for Our World (New York: The Free Press, 2009), and Vali Nasr, Meccanomics: March of the New Muslim Middle Class (Oxford, UK: Oneworld, 2010).
- مقابلة مع فالي نصر، ١٠.
- أيوبي، «تضخيم الدولة العربية»، ص. ٣٦.
- لنقاش أكثر تفصيلاً عن الفروق الجوهرية بين الليبرالية التنويرية والإسلام، انظر:
-
Manochehr Dorraj, “Populism and Corporatism in the Middle East and North Africa: A Comparative Analysis,” Chinese Political Science Review 2, (2017), 294.
-
Mehran Kamrava, Gerd Nonnemen, Anastasia Nosova, and Marc Valeri, “Ruling Families and Business Elites in Gulf Monarchies: Ever Closer?” Chatham House Report: Middle East and North Africa Program, (London, UK: The Royal Institute of International Aff airs, 2016), 6, https://www.chathamhouse.org/sites/default/fi les/publications/research/2016-11-03-ruling-families-business -gulf-kamrava-nonneman-nosova-valeri.pdf.
- المصدر السابق.
-
Stig Stenslie, Regime Stability in Saudi Arabia: The Challenge of Succession (New York, NY: Routledge, 2012), 57.
للاطلاع على دراسة أقدم، ولكن أكثر منهجية، عن دخول أفراد العائلة المالكة السعودية مجال الأعمال الخاصة، انظر:
Sharaf Sabri, The House of Saud in Commerce (New Delhi: IS. Publications, 2001).
- المصدر السابق.
-
Hesam Forozan and Afshin Shahi, “The Military and the State in Iran,” Middle East Journal 71, no. 1 (2017), 67, 86.
-
Thierry Coville, “The Economic Activities of the Pasdaran,” Revue internationale des études du développement, 229, no. 1 (2017), 91–111.
- نزيه الأيوبي، «تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط»، ترجمة أمجد حسين (بيروت، لبنان: المنظّمة العربية للترجمة، ٢٠١٠). ص. ٣٦. للمزيد عن الشركاتية السلطوية في العالم العربي، انظر:
Nazih Ayubi, “Withered Socialism or Whether Socialism? The Radical Arab States as Populist-Corporatist regimes,” Third World Quarterly 13, no. 1 (1992), 89–105.
- سلمان سيّد، «استعادة الخلافة: تفكيك الاستعمار والنظام العالمي»، ترجمة محمد السيّد بشرى (بيروت، لبنان: الشبكة العربية للأبحاث والنشر)، ص. ٢١٤.
-
Sofi e Bedford, Ceylun Mahmudlu, and Shamkhal Abilov, “Protecting Nation, State and Government: ‘Traditional Islam’ in Azerbaijan,” Europe-Asia Studies 73, no. 4 (2021), 691.
- المصدر السابق، ص. ٦٤٩.
- المصدر السابق، ص. ٦٩١.
- لا يختلف ذلك عن محاولات الدول في الشرق الأوسط وجنوب أفريقيا في سياق صياغة «إسلامهم الرسمي». وترى أنيل شيلين/ Annelle Sheline (١٤٥، ٢٠٢١) أن «الإسلام الرسمي [في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا] هو إسلامٌ صنّعته مؤسّسات الدولة دينية مثل وزارات الأوقاف/ الشؤون الدينية، إلى جانب مصادر رسمية أخرى كوزارة التعليم». ويبدو أن تصدير نسخة «رسمية» أو «تقليدية» من الإسلام بات أولوية مهمة للعديد من الدول القومية الحديثة ذات الغالبية المسلمة. انظر:
Annelle Sheline, “Evaluating the Resonance of Official Islam in Oman, Jordan, and Morocco,” Religions, 12 no. 3 (2021), 145–165.
- المصدر السابق.
- انظر:
Sébastien Peyrouse, “Islam in Central Asia: National Specificities and Postsoviet Globalisation,” Religion, State & Society 35, no. 3 (2007), 248.
-
Dominik Müller, “Appropriating and Contesting “Traditional Islam”: Central Asian Students at the Russian Islamic University in Tatarstan,” Central Asian Survey 38, no. 3 (2019), 400.
- انظر:
Neil Hauer, “Chechens Fighting Chechens in Ukraine,” New Lines Magazine, March 3, 2022, https://newlinesmag.com/reportage/chechens-fi ghting-chechens-in-ukraine/.
-
Ovamir Anjum, Who Wants the Caliphate? Yaqeen Institute, 2019, 46, https://yaqeeninstitute.org/read/paper/who-wants-the-caliphate.
- القول مأخوذ عن حمزة يوسف في مقالة كتبها الكاتبان. انظر:
Walaa Quisay and Thomas Parker, “On the Theology of Obedience: An Analysis of Shaykh Bin Bayyah and Shaykh Hamza Yusuf’s Political Thought,” January 8, 2019, The Maydan, https://themaydan.com/2019/01/theology-obedience-analysis-shaykh-bin-bayyah-shaykh-hamza-yusufs-political-thought/
- المصدر السابق.
- هو ساكن لأنه يتحاشى معارضة الأنظمة الحاكمة بأي شكل من الأشكال مهما كان هذا النظام مستبداً. وهذا طبعاً يرسّخ ديمومة الوضع الراهن، ويمكن لذلك وصفه بأنه دعم سلبي للطغيان.
- للمزيد عن كيف تناول علماء المسلمون مسألة الخروج على حاكم جائر، انظر مقابلة عويمر أنجم مع بول ويليامز (Paul Williams) على بودكاست Blogging Theology على اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=d9M7MVf6UfI. انظر أيضاً:
Mohd Farid bin Mohd Sharif, The Concept of Jihād and Baghy in Islamic Law: With Special Reference to Ibn Taymiyya. (Master’s Thesis: Edinburgh University, 2006); M. Abdul Qadir, “The Muslim Political Theory of Rebellion,” The Indian Journal of Political Science 1, no. 1 (1939) 23–29;
وارجع أيضاً إلى كتاب خالد أبو الفضل الرائع عن الخروج والعنف في الفقه الإسلامي الذي يزيد عن٤٠٠ صفحة:
Rebellion and Violence in Islamic Law (New York: Cambridge University Press, 2001).
-
David Warren, Rivals in the Gulf: Yusuf al-Qaradawi, Abdullah Bin Bayyah, and the Qatar-UAE Contest Over the Arab Spring (New York, NY: Routledge, 2021), 87.
- Warren, Rivals in the Gulf
انظر أيضاً:
Warren, “The Modernist Roots of Islamic Autocracy: Shaykh Abdullah Bin Bayyah and the UAE-Israel Peace Deal,” August 27, 2020, The Maydan, https://themaydan.com/2020/08/the-modernist-roots-of-islamic-autocracy-shaykh-abdullah-bin-bayyah-an d-the-uae-israel-peace-deal/
-
“United Arab Emirates 2021,” Amnesty International Report, https://www.amnesty.org/en/location/middle-east-and-north-africa/united-arab-emirates/report-united-ar ab-emirates/
- وائل حلّاق، «الدولة المستحيلة»، ترجمة عمرو عثمان (الدوحة، قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٤)، ص. ٣٠.
-
Abdullah bin Bayyah, The Nation-State in Muslim Societies (Abu Dhabi, UAE: Forum for Promoting Peace in Muslim Societies, 2019), 35.
-
Jon Hoffman, “The Abraham Accords and the Imposed Middle East Order,” The National Interest, October 3, 2022, https://nationalinterest.org/print/blog/middle-east-watch/abraham-accords-and-imposed-middle-east-orde r-205136.
-
The Abraham Accords Declaration. September 15, 2020, https://www.state.gov/wp-content/uploads/2020/10/Abraham-Accords-signed-FINAL-15-Sept-2020-508-1.pdf.
-
“Tunisia’s July 25 Referendum”, Press Statement, Antony Blinken, Secretary of State, July 28, 2022, https://www.state.gov/tunisias-july-25-referendum/.
- وائل حلّاق، «الدولة المستحيلة»، ترجمة عمرو عثمان (الدوحة، قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٤)، ص. ٣٣.
-
Max Scheler, Problems of a Sociology of Knowledge, trans. Manfred Frings (London: Routledge & K. Paul, 1980), 98.
- Werner Stark, The Sociology of Knowledge: An Essay in Aid of a Deeper Understanding of the History of Ideas (London: Routledge & Kegan Paul, 1960), 114.
- وائل حلّاق، «الدولة المستحيلة»، ترجمة عمرو عثمان (الدوحة، قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٤)، ص. ١٠٥-١٠٦.
- آية الله الخميني كما نُقل عنه في:
Chibli Mallat, The Renewal of Islamic Law (Cambridge, UK: Cambridge University Press, 1993), 92.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي قال فيها الخميني شيئاً كهذا. ففي خطاب له عام ١٩٨١م، ألقاه في ذكرى وفاة العالم الإيراني محمد الطباطبائي، قال الخميني: «الحفاظ على الجمهورية الإسلامية هو واجب إلهي يسبق كل الواجبات، بل هو أهم من حماية إمام العصر» كما نقل عنه في:
Farhang Rajaee, Values and World View: Khomeyni on Man, the State, and International Politics (Lanham, MD, University Press of America, 1983), 70.
-
Hamid Mavani, “Khomeini’s Concept of Governance of the Jurisconsult ‘(Wilayat al-Faqih)’ Revisited: The Aftermath of Iran’s 2009 Presidential Election,” Middle East Journal 67, No. 2 (2013), 209.