مقدّمة
يجد الساعي سبلاً متعدّدة يمكن العمل بها لرفع سوية الاندماج في الأمة: فربما يُهيّئ لهذه الأمة قيادات جديدة من دولة من الدول القائمة اليوم أو من دولة جديدة، أو من مجموعة من الدول، وربما يكون هذا المنبع هو القطاع الخاص أو منظّمة مدنية، أو سبيل آخر لم نكتشفه بعد. تركّز هذه الورقة على أحد هذه السبل، وهي المنظّمات متعدّدة الأطراف، في سبيل استنباط بعض الدروس من النسخ العلمانية التي تجلّت في هذا النموذج خلال نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، وكيف يمكن لهذه الدروس أن تفيدنا في مسألة الاندماج الأمتي. وتحاجج هذه الورقة أن بناء منظّمات إسلامية قوية متعدّدة الأطراف تتمتّع بالاستقلالية الحقيقية من نفوذ أعضاءها لهو أمر صعب، كما يبدو لنا، في ظلّ الظروف الراهنة التي لا تزال فيها الدولة القومية العلمانية هي العلامة الفارقة (Master-Signifier) المهيمنة في سياق العمل السياسي والمخيال السياسي على حدّ سواء. وصحيح أن النظام الليبرالي العالمي حلّ به إنهاكٌ عميق، من باطنه وخارجه،1 إلا أننا لا نجد، حتى اللحظة، أن انحداره أو صعود بدائل سلطوية، كالصين وروسيا، يخلق المساحة اللازمة لإيجاد منظّمة إسلامية قوية مستقلة متعدّدة الأطراف. ولكن متى ما قطع التفكير والمخيال والحراك المتمحور حول مفهوم الأمتيّة شوطاً أكبر، فقد يكون هناك مساحة أكبر لمنظّمة متعدّدة الأطراف من هذا النوع. وتذهب هذه الورقة أيضاً إلى أن أكثر نموذج اندماج فوق حدودي (supranational) واعد هو المنظّمات الإقليمية سريعة الانتشار جغرافياً التي تجمعها رؤيةٌ واضحة. وحتى لو قامت منظّمة إقليمية واحدة من هذا النوع، فستكون خطوة هامة على طريق الاندماج الأمتي العالمي.
يتوجّب على مفكّري الأمة أيضاً أن ينظروا في مسألة أوسع، هي نوع النظام السياسي الذي يلزم وجوده للسماح للأمة بأن تبنيَ مؤسّسات أقوى. ولعل النظام الأنسب للأمة هو نظام، لو جاز لنا أن نستخدم مصطلحات عالم العلاقات الدولية جون ميرشايمر (John Mearsheimer)، «مؤطّر/bounded»، و«أيديولوجي/ideological»، و«كثيف/thick»، فهو مؤطّر بحدود لأنه يضمّ بشكل رئيس الدول ذات الأغلبية المسلمة، وهو أيديولوجي لأنه يجمع الدول على رؤية مثالية مشتركة وليس مجرد مصالح مشتركة، وهو كثيف في سياق رعاية «مؤسّسات تختصّ بتأثير كبير على سلوك الدول في المجالين الاقتصادي والعسكري»،2 ولعل ذلك يمتد أيضاً إلى مجال الحقوق والحريات الاجتماعية السياسية، والتنوّع بين المسلمين. وسيكون لهذا النظام، بطبيعة الحال، أن يرحّب بمن يريد وأن ينفي عن نفسه من يريد، وهذه الخصوصية هي جزء من أي نظام سياسي كما يبيّن العالم السياسي كايل لاسكوريتس (Kyle Lascurettes).3
تتناول هذه الورقة بعضاً من أقوى المنظّمات المتعدّدة الأطراف التي قامت منذ عام ١٩٤٥م، بغية استخلاص الدروس والإحاطة بالإمكانات والقيود المتجذّرة في هذه المنظّمات في سياق كونها أحد ضروب الاندماج العابر للحدود. وتجسّد المبادرات والمنظّمات التي تدرسها هذه الورقة محاولات مختلفة لدمج دولتين قوميتين أو أكثر من الناحية السياسية والاقتصادية، أو العمل بمعايير حكومة مشتركة على المستوى العالمي أو الإقليمي، أو كلّاً من هذا وذاك. تضمّ الأسماء التي تتناولها هذه الورقة، على سبيل الذكر لا الحصر، الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ورابطة أمم جنوب شرق آسيا، وغيرها.4
ولا يجب أن ننسى، في دراستنا لهذه الأمثلة، أن جميع هذه المحاولات هي محاولات علمانية لتحقيق الاندماج ضمن إطار النظام الليبرالي الذي يجمع الدول القومية، والذي قام بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا تقرّر ذلك، فإنّ هذه الدراسة مهمة على وجه الخصوص إذا تخيّلنا اندماجاً أمتياً يتجلّى في شكل منظّمة فوق حدودية تجمع الدول القومية المسلمة، وهذا ما حدث في العديد من المقاربات التدريجية. ولو أخذنا بهذا الإطار المرجعي، فإن النتائج التي تخلص إليها هذه الورقة يغلب عليها السوداوية. فلم يأتِ هذا التشاؤم تجاه فرص قيام منظّمة أمتيّة متعدّدة الأطراف في المستقبل القريب من فراغ، بل هناك ما يدفع للتشكيك بجدوى اندماج من هذا النوع أصلاً نظراً لأن الدولة القومية كانت من أبرز موجبات الفرقة بين المسلمين.5 ثمّة هناك أيضاً تحدّيات حقيقية تنطوي عليها عملية تحويل التعدّدية العلمانية وافتراضاتها الموجّهة عن كيفية تعريف الأمة والمواطنة إلى نماذج أمتيّة ترتكز على افتراضات مختلفة في جوهرها عن الانتماء السياسي، وهذا سيستلزم من مفكّري الأمة وناشطيها تصوّر اندماج أمتي يتعالى على إطار الدولة القومية. ولكن يبقى للأطر العلمانية أهميتها، حتى لو أخذنا بهذا الفهم للاندماج الأمتي، إذ أن القوة البارزة لبعض المنظّمات العلمانية متعدّدة الأطراف تقدّم بعض الدروس للأمة.
تحاول هذه الورقة تلمّس بعض التوجّهات من مختلف المنظّمات متعدّدة الأطراف الموجودة حول العالم، وغير ذلك من الجهود الاندماجية. وتقدّم الورقة عشرة استنتاجات أساسية استُخلصت بصورةٍ رئيسيةٍ من رصد التوجّهات في المنظّمات متعدّدة الأطراف الموجودة، ومن ثم الأطر النظرية بدرجةٍ أقل. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن علماء العلاقات العامة قد صاغوا نظرياتٍ مختلفة لتفسير مفهوم الاندماج العابر للحدود وتحليله، والتي استُمدت، بالدرجة الأولى، من دراسة الاتحاد الأوروبي. وتشمل هذه المقاربات النظرية الوظيفية (functionalism)، والوظيفية الجديدة (neofunctionalism)، والحكوماتية (intergovernmentalism)، والفيدرالية (federalism)، وما بعد الوظيفية (postfunctionalism). وتميل مقاربة هذه الورقة إلى الحكوماتية وما بعد الوظيفية من بين هذه المقاربات، فهي تتقاطع مع الحكوماتية في دراستها لتأثير ديناميكيات القوة بين الدول بالاندماج، ومع ما بعد الوظيفية بالتركيز على التجاذب السياسي الداخلي وكيف له أن يقوّض عملية الاندماج.6
الاستنتاجات العشرة هي: (۱) غالباً ما تؤدّي المساعي للاندماج على المستوى الإقليمي أو العالمي إلى إعادة التأكيد على السيادة الوطنية؛ (۲) تنهار معظم المحاولات التي تقوم بها دولتان أو أكثر لإنشاء وحدات مندمجة بالكامل، أو حتى اتحادات فيدرالية متماسكة، ويحدث هذا الانهيار خلال فترة قصيرة جداً، ولكن يُوجد بعض الأمثلة التي تدلّ على عكس ذلك؛ (۳) تنزع بعض القوى الإقليمية أو العالمية إلى الهيمنة على المنظّمات التي يُراد أن تكون إشراكية (inclusive) ومتعدّدة الأطراف في غالب الحالات؛ (٤) تأسيس كتلة إقليمية يمكن أن يؤدّي إلى ردود فعل كإيجاد كتلة منافسة، وهذا مما يهدّد مسار تحقيق المزيد من الاندماج؛ (٥) يثبت التاريخ أن تيسير التجارة والتنقّل عبر الحدود وما يتناسب مع ذلك من زيادة حرية تنقّل الأشخاص والعمالة ضمن مناطق إقليمية معيّنة، هي الصورة الأكثر نجاحاً واستقراراً من صور الاندماج في عالم ما بعد عام ۱۹٤٥م؛ (٦) كل مشاريع الاندماج يمكن أن تنتكس، مهما كانت ناجحة، ولنا في أزمة بريكست خير مثال؛ (۷) الإفراط في التعدّدية يمكن أن يُؤتي نتائج عكسية؛ (۸) معظم نماذج الاندماج التي قامت منذ عام ۱۹۹۱م ولا تزال صامدة حتى اليوم كانت متوافقة مع الرأسمالية وخاضعة لها، ولكن مع تمتّعها بالقدرة على التكيّف؛ (۹) سيكون من الصعب إعادة صياغة نماذج الاندماج العلماني بطابع إسلامي واضح في ظلّ الظروف الراهنة نظراً لأن نماذج الاندماج، خصوصاً على المستوى الإقليمي، ترتكز على تصوّرات علمانية لمفهوم المواطنة؛ (۱۰) يتوجّب على المفكّرين الأمتيين دعم صور معيّنة من الاندماج «العلماني» ومناصرتها لما لها من فوائد أمتيّة، والقصد صور الاندماج التي تسمح بحرية تنقّل أكبر.
تاريخ موجز عن المنظمات متعدّدة الأطراف ونُظم الحوكمة العالمية
إنّ تعريف كلمة «علماني» ليس بالأمر السهل،7 إلا أن المؤسّسات التي تتناولها هذه الورقة جميعها «علمانية»، ونقصد بذلك أن غايتها الجوهرية لا تُعرّف، في ظاهرها، بأنها دينية، ولهذا لا تُعنى الأفكار الرئيسية لهذه الورقة بهيئات مثل رابطة العالم الإسلامي (تأسّست عام ۱۹٦۲م)، ومنظّمة التعاون الإسلامي (تأسّست عام ۱۹٦۹)، والندوة العالمية للشباب الإسلامي (تأسّست عام ۱۹۷٥م).8 يُوجد تقاطع له جذور تاريخية قديمة بين المنظّمات العلمانية والدينية، ويتجلّى ذلك مثلاً في أن بعض أهم المنظّمات غير الحكومية التي تشكّل أعمدة نُظم التبرّعات العالمية والإغاثة الإنسانية هي منظّمات لها جذور دينية، سواء كلياً أو جزئياً، ومنها اللجنة الدولية للصليب الأحمر (تأسّست عام ۱۸٦۳م)، وكاريتاس/Caritas (تأسّست عام ۱۸۹۷م)، ومنظّمة كير/Care الدولية (تأسّست عام ۱۹٤٥م). إلا أن أقوى المنظّمات التي تضمّ حكومات دول هي منظّمات ذات طبيعة غير دينية.
إنَّ المنظّمات متعدّدة الأطراف قديمة قِدَم الاتفاقيات متعدّدة الأطراف، ولكن يتجاوز هدف المنظّمات مجرّد السعي لإنهاء حرب أو دائرة عنف. فالمنظّمات متعدّدة الأطراف هي كتل دائمة، أو يُراد لها البقاء على المدى الطويل، يقوم عليها فريق عمل دائم ولها ميزانيتها المستقلة، أي أنها ليست مجرّد معاهدة دولية. ويعود أصل هذه المؤسّسات برأي معظم الباحثين إلى نهاية الحروب النابليونية، وتحديداً مؤتمر فيننا (۱۸۱٤-۱۸۱٥م) الذي سعى إلى إقامة السلام بعد نهاية الحرب.9 ولا يجب إغفال التطوّرات خارج أوروبا التي لا تقل أهمية، ومنها كونغرس بنما (۱۸۲٦م) الذي سعى إلى الاتفاق على سياسة خارجية مشتركة بين الجمهوريات المستقلة حديثاً في أمريكا اللاتينية. شهد القرن التاسع عشر بعد ذلك ولادة منظّمات سياسية واقتصادية مختلفة. ولا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى موجة من الأدبيات برزت مؤخّراً تشكّك في فكرة أن «النظام الدولي» كانت بداياته في الغرب،10 وتقوم هذه الأدبيات على إعادة النظر في العلاقات الدولية من منظور بعيد عن المحورية الأوروبية، وهو أمر مفيد ومحمود، إلا أن وحدة التحليل الجوهرية في هذه الأدبيات هي الإمبراطوريات، وليس المنظّمات متعدّدة الأطراف كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهما.
تسارعت عجلة محاولات ضبط الاقتصاد العالمي والمشهد الجيوسياسي في القرن العشرين. وكانت فترة ما بين عامي ۱۸۱۹-۱۹۳۹م مفصلية على وجه الخصوص، ففشلت محاولة عصبة الأمم، وكان ذلك في جزء منه لرفض مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة المصادقة على المعاهدة المطلوبة. ولكن فترة ما بين الحربين شهدت محاولات سيُكتب لها أن تتحوّل إلى مبادرات للحكومة الاقتصادية لاحقاً.11 وشهدت فترة ما بين عامي ۱۹٤٤-۱۹٤۹م، بعد ذلك، قيام أقوى منظّمة متعدّدة الأطراف في عالمنا اليوم. دُشّنت سلسلة أخرى من المبادرات ضمن ما عُرف بمؤسّسات بيرتون وودز (Bretton Woods) التي استلهمت اسمها من البلدة الأمريكية التي استضافت مؤتمر ۱۹٤٤، حيث صاغت ٤٤ دولة، تصدرّتهم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، الاتفاقية التي انبثق منها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي،12 كما يُعدّ الاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارة (۱۹٤۷م)، التي مهّدت الطريق لإنشاء منظّمة التجارة الدولية (تأسّست عام ۱۹۹٥م)، جزءً من مؤسّسات بريتون وودز بنظر المعظم أيضاً. أسّست كتلة الحلفاء الأمم المتحدة عام ۱۹٤٥م، ومن ثمّ جاء تأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو) على يد الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية عام ۱۹٤۹م، مع احتدام الحرب الباردة. وعلى مدار الفترة بين عامي ۱۸۱٥م و۱۹٤۹م، وما تبعها، كان السببان الرئيسيان لإنشاء منظّمات متعدّدة الأطراف هما محاولة الوقاية من الحرب، ودمج اقتصاد الدول وإرساء أسس استقرار النظام المالي العالمي.
شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أيضاً موجة من حركات النضال من أجل الاستقلال، وقد نجح العديد منها، على عكس ما كان في الموجة التي سبقت ذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى. فحصلت العديد من الشعوب في آسيا وأوروبا على استقلالها من مستعمريها من القوى الأوروبية التي تصالحت، أو بالأحرى أُجبرت على التصالح، مع انهيار إمبراطورياتها (وكانت معظم المساحات في أمريكا الوسطى والجنوبية قد حصلت على الاستقلال قبل ذلك في القرن التاسع عشر). وتزايد بذلك عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي وغير ذلك من المؤسّسات الرئيسية، وخلق أيضاً محفّزاً لإنشاء منظّمات إقليمية متعدّدة الأطراف، مثل الجامعة العربية (تأسّست عام ۱۹٤٥م)، ورابطة جنوب شرق آسيا (تأسسّت عام ۱۹٦۱، واستُبدلت برابطة أمم جنوب شرق آسيا أو «آسيان» عام ۱۹٦۷م)، ومنظمة الوحدة الأفريقية (تأسّست عام ۱۹٦۳م، وتحوّلت إلى الاتحاد الأفريقي عام ۲۰۰۲م). ومنّت بعض هذه المنظّمات النفس بمستويات بعيدة من التوحّد، لكن تبيّن أنّ من الصعب التوفيق بين ذلك وبين القومية والمصالح الوطنية والنزاعات بين الدول، وسيأتي نقاش هذه المشاكل فيما يلي. وترسّخت حالة من الشدّ في فترة ما بعد عام ۱۹٤٥م بين نداء تحديد المصير والرغبة في تحقيق مستويات أكبر من الاندماج والتعاون، والمفارقة أن زعماء بعض الدول كانوا هم أنفسهم من ينادون بهذا وذاك في آن معاً.
منح الاستقلال في دول العالم ذي الغالبية المسلمة شيئاً من السيادة المحلية للقوميات الجديدة، ومعها فرصاً جديدة للتأثير بالأمم المتحدة (تحديداً الجمعية العامة للأمم المتحدة) وغيرها من المؤسّسات الهامة. ولكن هذا الاستقلال كان استقلالاً جزئياً لم يحرّر هذه الدول من النفوذ السياسي والاقتصادي التي حافظت عليه الدول الغربية داخل مستعمراتها، حتى أنه أصبح صورة من صور الاستعمار الجديد (neocolonialism) في بعض الحالات.13 كما رسّخ الاستعمار الحدود التي رسمها المستعمر، والتي فرّقت في بعض الحالات بين شعوب كانت متآلفة، كما خلق أو أغرى لدى النخب الحاكمة الجديدة رغبة بالسعي لتحقيق مصالح أضيق. وفرض ذلك أيضاً تحدّيات شائكة على هذه الدول التي كانت تحاول رسم مسار علاقاتها مع الدول الكبرى، أو اختيار عدم الانحياز، في الحرب الباردة.14 وتعارض التضامن الإسلامي مع غيره من دوافع التضامن الإثنية والثقافية والقومية، وتضاءلت أهمية الهويات الدينية التي أصبحت محوراً ثانوياً أو حتى هامشياً في تأسيس المنظّمات متعدّدة الأطراف، حتى في الشعوب ذات الغالبية المسلمة.
وبالمحصّلة، أعادت المنظّمات متعدّدة الأطراف رسم المشهد السياسي العالمي. فحتى أكثر الدول المنبوذة دبلوماسياً، ككوريا الشمالية، لها مقعدها في الأمم المتحدة التي تمنح أيضاً صفة المراقب لبعض الشعوب المتنازع على الاعتراف الدبلوماسي بها عالمياً، كفلسطين. لقد أصبحت المنظّمات متعدّدة الأطراف المنبر الأهم الذي تُناقش فيه القضايا، عامها وخاصّها، ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، السلام والأمن، والتجارة، وتغيّر المناخ. ويتعاظم تأثير هذه المنظّمات عندما تصبح أعظم من مجموع مكوّناتها، وتتحوّل بمجملها إلى أنظمة قائمة بذاتها. فيقول أحد المؤرّخين المختصّين بصندوق النقد الدولي، مثلاً، أن دور الصندوق يغلب عليه بصورة متزايدة «تحفيز» إقراض الأموال للدول المستقرضة، بدلاً من مجرّد منح القروض لمن يرغب، وأن هذا الصندوق يعمل «مديراً للأزمات الدولية» ويشغل دور المنسّق بين المؤسّسات الأخرى وحتى القطاع الخاص.15 بل إن الأمم المتحدة أصبحت نظاماً جامعاً يضمّ تحته العديد من الهيئات متعدّدة الأطراف التي تتمتّع كلٌّ منها بتأثير كبير، كبرنامج الغذاء العالمي الذي يعمل تحت جناح الأمم المتحدة. ويتجلّى تأثير هذه النُظم في العديد من جوانب الحياة اليومية لمئات ملايين الناس حول العالم، بدءً من طعام الناس وضبطهم وانتهاء بإدارة وتأطير الأماكن العامة، والمواقع الطبيعية والكنوز التاريخية.
وفي الوقت نفسه تتباين قدرة المنظّمات متعدّدة الأطراف على إنفاذ إرادتها. ولعل أوضح الأمثلة على نوع الضغط الذي تقدر المنظّمات متعدّدة الأطراف على فرضه هو التكيّف الهيكلي (structural adjustment) الذي ألزم من خلاله صندوق النقد الدولي والبنك الدولي العديد من الدول المستميتة والمدينة في العالم النامي، تحديداً في فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. فاستخدم هؤلاء المانحون ما يُعرف بالقروض المشروطة لتمرير تغييرات واسعة في العديد من الاقتصاديات النامية في مرحلة ما بعد الاشتراكية، كان منها الخصخصة المتسارعة والتقليص الكبير للخدمات وفرص العمل في القطاع العام، والتحوّل المضطرد إلى اقتصاد السوق. وفي المقابل، لعل أوضح مثال على عدم قدرة المنظّمات متعدّدة الأطراف على تحقيق ما تريد، هو الضعف المزمن والملازم لقوى حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وعدم قدرتها على احتواء نزاعات مستمرة في العديد من الدول التي أُرسلت إليها، وما يرافق ذلك من غياب التقدّم والاستقرار السياسي الذي يُفترض بجهود حفظ السلام أن تدعمه.16 وفي المحكمة الجنائية الدولية نجد مثالاً آخر على مؤسّسة فشلت في المجمل بتحقيق ما طُلب منها، إلا في حالات كان فيها الشخص المطلوب من دولة هامشية، وبعد أن هُزم وأُسر. بل حتى التحالفات الكبيرة التي تدخّلت عسكرياً في دول وُصفت بالمارقة انتهى أمرها إلى الانسحاب انسحاب المهزوم، كما في أفغانستان، أو دون تحقيق انتقال حقيقي إلى نظام مستقر ومنفتح، كما في ليبيا. إلا أن إخفاقات المنظّمات متعدّدة الأطراف، في الوقت نفسه، يمكن أن تخلق أموراً جديدة، كما يبيّن أحد العلماء في حالات مهام حفظ السلام الأممية، حيث أن «ما تقوم به الأمم المتحدة في مكان ما قد يغيّر الاستراتيجيات والمخرجات والخيارات المتاحة لأطراف النزاع في أماكن أخرى» حتى إن فشلت مهام حفظ السلام الأممية.17
ومما يستحق الذكر أن المنظّمات متعدّدة الأطراف اتُهمت، اتهامات وجيهة، بأنها تنتهك جهراً مبادئها التأسيسية التي تقوم على الديمقراطية الداخلية والتمثيل، وبأنها ميادين غير عادلة تهيمن عليها دول العالم القومية. ولا تخفى تجلّيات ديناميكيات القوة هذه في أقوى المنظّمات المعروفة في العالم على أحد – لا يزال الأعضاء الدائمون لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حتى اليوم هم الأطراف المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، ورئيس البنك الدولي تختاره دائماً الولايات المتحدة، إلى غير ذلك من هذه التجلّيات. ويمتد هذا أيضاً إلى المستوى الإقليمي في الغالب، فانظر مثلاً إلى نيجيريا، أكبر بلاد غرب أفريقيا من ناحية التعداد السكاني وصاحبة أكبر اقتصاد فيها، التي تحتضن المقر الرئيسي للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وهي أهم مموّليه والطرف المهيمن عليه.
يختلف أيضاً حال المنظّمات الإقليمية متعدّدة الأطراف من إقليم إلى آخر. فهناك من هذه المنظّمات ما هو فاعل ونشط، بل واستطاع إنماء سلطته مع مرور الزمن، كالمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وهناك من هذه المنظّمات ما كان أداؤها دون ذلك، أو حتى سيطر عليها الركود نسبياً. يقول عالم سياسي عن رابطة دول جنوب شرق آسيا بأن «التعدّدية في شرق آسيا مثقلة بإرث الماضي والتوتّرات التاريخية الباقية التي يحملها، والتحسّس المستمر من مسألة من الذي يتصدّر الإقليم».18 وبعبارة أخرى، قيّد التوتّر بين الصين واليابان قدرة رابطة دول جنوب شرق آسيا على إنفاذ سلطتها. ومن الأمثلة على المنظّمات الراكدة اتحاد المغرب العربي المتأسّس عام ۱۹۸۹م، الذي أنهكه التنافس الموجود بين الجزائر والمغرب وليبيا.
وخلاصة القول أن تاريخ المنظّمات متعدّدة الأطراف العلمانية وحاضرها والمنظّمات غير الحكومية المقاربة منها يزخر بالدروس الكثيفة التي يمكن أن تُفيد المفكّرين الأمتيين. فالعالم الذي تلفّه شبكات العولمة بشكل متزايد، والحروب التي قامت بين الفترة والأخرى، والأزمات كلها ساهمت في خلق مساحة لإيجاد المنظّمات متعدّدة الأطراف، ولكن هذه المنظّمات تقدّم حالات متباينة، وهي أيضاً عرضة دائما لتقع تحت هيمنة أقوى أعضائها، وغير قادرة أحياناً على تحقيق مهامها الرئيسية.
الاستنتاج الأول: غالباً ما تؤدّي المساعي للاندماج على المستوى الإقليمي أو العالمي إلى إعادة التأكيد على السيادة الوطنية
يُعدّ الخوف على السيادة الوطنية أكبر العوائق التي تعترض الاندماج العالمي، حيث تنزع الدول بشكل عام إلى التنازل عن قدر من سيادتها بما يتناسب مع قوتها النسبية ضمن النظام العالمي. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك هو مساهمة الولايات المتحدة في إنشاء المحكمة الجنائية الدولية دون التوقيع على نظام روما الذي دُشّن عام ۱۹۹۸م، بل إن الولايات المتحدة لا تعتبر نفسها أيضاً خاضعة لولاية المحكمة. كما تؤثّر التغيّرات في المشهد السياسي الداخلي لدولة ما بتعاملها مع المبادرات متعدّدة الأطراف. فقد انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب (Donald Trump)، مثلاً، من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ عام ۲۰۱۸م بعد موافقة الولايات المتحدة على الانضمام إليها خلال ولاية باراك أوباما (Barack Obama)، الرئيس الذي سبقه. وبالمقابل، وعلى طرف النقيض من الدول القوية، نجد الدول التي تعاني فقراً شديداً في إقليم الساحل في غرب أفريقيا، إذ أن هذه الدول كانت عرضة لتعدّيات عديدة على سيادتها، ولم يقتصر ذلك على برامج «التكيّفات الهيكلية» في الثمانينات التي أتى ذكرها أعلاه، وإنما أيضاً فترات الجفاف التي شهدتها هذه الدول في السبعينات، والتي استغلتها المنظّمات غير الحكومية لـ«تصنع [بالقوة] مساحة سياسية جديدة للمبادرات المستوردة، والتحكّم بالتوزيع، والتضييق على سيادة هذه الدول».19 فالقوي يرسم القواعد ويدوس عليها متى شاء، والضعيف لا يملك إلا الانصياع لها.
ولكن حتى الدول الضعيفة يمكن أن تجد طرقاً لإنفاذ إرادتها وسيادتها داخل المؤسّسات القوية متعدّدة الأطراف، ونجد في رفض تشاد في بدايات الألفية لمحاولات البنك الدولي أن يفرض عليها كيفية إنفاق وارداتها النفطية مثالاً على ذلك.20 ووجد أحد العلماء أن الدول الضعيفة داخل المحكمة الجنائية الدولية تحاول حتى «استخدام المحكمة لكسب بعض الأوراق في النزاعات الداخلية ولتعزيز موقفها في سياق سعيها لتحقيق مصالحها السياسية والأمنية».21 ومختصر القول أن الدول القوية تحاول في معظم الأحيان توجيه مساعي الاندماج بما يدعم مصالحها، حتى لو كان ذلك بأساليب تفضح نفاقها، أما الدول الضعيفة فإنها تلاقي ضغوطاً أكبر من المؤسّسات متعدّدة الأطراف، ويمكن لقادة هذه الدول أحياناً أن يجدوا طرقاً مبتكرة لقطع الطريق على هذه المساعي القسرية أو الهروب منها، وكل هذه ديناميكيات تجعل تحقيق التكامل الحقيقي أمراً أصعب.
أحد الظواهر المتكرّرة أيضاً توجّس المنظّمات متعدّدة الأطراف من إنفاذ قيمها وأعرافها المعلنة إنفاذاً كاملاً، وهو ما له أن يضرّ بمصداقيتها ويُضعف قوتها على إنفاذ إرادتها. فكان تعامل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا مع عدد من الأزمات السياسية والأمنية الكبيرة التي شهدها الإقليم فبين عامي ۲۰۲۰-۲۰۲۳م تعاملاً فاتراً، وقد تركّزت هذه الأزمات في دول ثلاث هي مالي وغينيا وبوركينا فاسو. فلم تعترض المجموعة اعتراضاً جادّاً على الانتخابات التشريعية غير النزيهة التي أُقيمت في مالي عام ۲۰۲۰م، مع أن أحد أهداف المجموعة المعلنة هو تعزيز القيم الديمقراطية في إقليم غرب أفريقيا. ولم تعترض المجموعة أيضاً على ترشيح رئيس غينيا لنفسه لولاية رئاسية ثالثة في العام نفسه، منتهكاً بذلك دستور بلاده. وقد أدّى كلٌّ من هذين التجاوزين إلى انقلابين في مايو (۲۰۲۰م) وغينيا (۲۰۲۱م). ومن ثم عجزت المجموعة عن فرض إرادتها على المجالس العسكرية، أو الجونتا، التي استولت على الحكم في مالي وغينيا، وكذلك الأمر على المجالس العسكرية التي استولت على الحكم في بوركينا فاسو بعد انقلابين وقعا في كانون الثاني/يناير ۲۰۲۲م وأيلول/سبتمبر من العام نفسه. وحتى عندما حاولت المجموعة استخدام العقوبات لإجبار قادة مالي الجدد على إعادة الحكم للمدنيين، لم تُلقِ المجالس العسكرية في مالي بالاً لتوجيهات المجموعة طوال فترة العقوبات (كانون الثاني/يناير-تموز/يوليو ۲۰۲۲م)، حتى اضطرت المجموعة إلى الموافقة على «تسوية» رجّحت كفة المجالس العسكرية بمنحهم مهلة زمنية حتى عام ۲۰۲٤م للتنازل عن السلطة. وبالمحصّلة، يشتمل تاريخ المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، التي يرى نُقّادها أنها ليست سوى نادٍ لرؤساء دولها، على شيء من الإنجازات وشيء من الإخفاقات في التعامل مع الأزمات التي عصفت بأعضائها. فمثلاً شهدت بعض أضعف دولها تدخّلات عسكرية، كما حدث في غامبيا عام ۲۰۱۷م عندما رفض رئيسها التنازل عن السلطة بعد خسارته للانتخابات وبعد تمسّكه بكرسي الحكم سنوات طويلة. وفي المقابل، بان على المجموعة عدم رغبتها بالوقوف بوجه زعماء غرب أفريقيا السلطويين، وعدم القدرة على التعامل مع حجم التحدّيات التي تتجلّى في دول تتلاطمها الاضطرابات وتسيطر عليها حالة من غياب الأمن.
وقد يُفهم من هذه التجارب أن الأمة لن تستطيع الهروب من احتمال هيمنة الدول القوية على أي منظّمة أمتيّة متعدّدة الأطراف يتمّ تأسيسها، ولا شكّ أن هذه الدول القوية لن تفوّت الفرصة لانتهاك سيادة الدول الأضعف، طبعاً مع رفضها القاطع تدخّل أحد في سيادتها. كما أن شعوب الدول الأضعف، وهي ترى منظّمة خارجية تتلاعب بمصائرهم من غير رقيب ولا حسيب، قد يتمكّن منها السخط الذي يدفعها باتجاه الأفكار القومية. وما كُرْهُ الناس لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في العديد من الدول إلا دليل حي على ذلك، وكذلك الأمر في حملة «الالتفاف حول الراية» التي ظهر وكأنها استولت على مالي عندما فرضت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا عقوبات عليها. ويمكن أن يستغل قادة هذه البلدان هذه الروح القومية لمحاربة التعدّدية نفسها.
الاستنتاج الثاني: تنهار معظم المحاولات التي تقوم بها دولتان أو أكثر لإنشاء وحدات مندمجة بالكامل، أو اتحادات فيدرالية، ويحدث هذا الانهيار خلال فترة قصيرة جداً
أثبتت تجارب فترة ما بعد الاستقلال أن صون وحدة دولة ما أمر أصعب من إقامة دولة جديدة. فانفصال باكستان وبنغلادش عام ۱۹۷۱، ويوغسلافيا عام ۱۹۹۲م، والسودان وجنوب السودان عام ۲۰۱۱م كلها أمثلة بليغة على نجاح النزعة الانفصالية. فقد ساهمت العديد من العوامل في تفكّك الدول، منها التوتّرات الإثنية، وصعوبة حكم مساحات شاسعة غير متصلة ببعضها البعض، والتمييز الداخلي، ورواسب السياسات الاستعمارية المتغلغلة. كما ظهرت نزعات انفصالية في العديد من الدول الأخرى من إسبانيا حتى الصومال. وصحيح أن تحقيق استقلال قانوني رسمي أمر صعب، كما بان لقادة الحركات الاستقلالية خائبي الآمال في صوماليلاند وغيرها من الدول، إلا أن تجزئة مساحات الدول وتفكيكها على أرض الواقع أمر شائع.
وقد أثبت التاريخ أن توحيد قطعتين من الأرض أو أكثر وجعلهما أرضاً واحدة هو أمر معقّد وصعب. فعلى الرغم من وجود العديد من النُظم الفيدرالية في العالم اليوم، معظم هذه الاتحادات الفيدرالية تحكم دولاً كان من رسم حدودها، ولو أولياً على الأقل، هي قوى استعمارية، كما في الولايات المتحدة والهند ونيجيريا. أما محاولات خلق وحدة جديدة أو اتحادات فيدرالية في فترة ما بعد الاستقلال فقد غلب عليها الفشل. وهناك مثالان اثنان يبيّنان صعوبة ذلك، هما الجمهورية العربية المتحدة التي وُلدت بدمج مصر وسوريا، ولم تدم أكثر من ثلاث سنوات (۱۹٥۸-۱۹٦۱م) قبل انفصال سوريا عنها، واتحاد مالي الذي ضمّ ما يُعرف اليوم بدولتي السنغال ومالي، ولم يدم استقلاله أكثر من شهرين (حزيران/يونيو-آب/أغسطس ۱۹٦۰م). ويرى مالك مفتي في دراسته لحالة الجمهورية العربية المتحدة وغيرها من مقترحات الوحدة في العالم العربي أن قيام هذه المحاولات كان سببه هو «عجز النخب الحاكمة عن توطيد سلطتها… وهذا دفعهم باتجاه الوحدة العربية أملاً في إيجاد الشرعية والدعم»، ومن ثم تبدّدت رغبة هؤلاء القادة بالسعي لتحقيق مشاريع الوحدة بمجرّد ما استقر المشهد السياسي الداخلي في بلادهم.22 وفشل ميلاد اتحاد مالي لأن «طبيعة توزيع السلطات أفضت إلى نظام لا يوجد فيه مركز قوي، وتضاءلت فرص تحويل ذلك إلى وحدة حاكمة يُعوّل عليها دون الإخلال بالتوازن القائم».23 ويمكن إسقاط هذه الدروس، بشكل أوسع، على الصعوبات التي تواجه أي محاولة لدمج الأراضي أو تحويلها إلى اتحاد فيدرالي، فترجمة الرؤى إلى واقع ليس أمراً سهلاً، حيث تتضارب مصالح القيادات، وتنهار الوحدات متعدّدة القوميات غالباً قبل انبثاق وترسّخ هوية فوق قومية في صدور مواطني هذا الاتحاد الجديد.
ولو كان لنا أن نناقش مسألة الرؤية، فيمكن القول إن بعض أحلام الاندماج ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بشخصيات كارزماتية بحد ذاتهم. وأشخاص كهؤلاء، تحملهم شعبيتهم الواسعة في بلادهم وخارجها، يمكن لهم المضي قدماً لتحقيق رؤاهم خصوصاً لو توفّر لهم موارد ودعم كبيرين. وهذا كان حال الرئيس المصري جمال عبد الناصر (في الحكم من ۱۹٥٤م إلى ۱۹۷۰م) الذي اختُصّ بقدر كبير من الكاريزما الشخصية، التي كانت عاملاً محورياً في إنشاء الجمهورية العربية المتحدة. ومثله رئيس ليبيا معمّر القذافي (في الحكم من ۱۹٦۹م إلى ۲۰۱۱م)، الذي نادى بإقامة الولايات المتحدة الأفريقية، والذي كان أحد أهم داعمي ما أصبح لاحقاً الاتحاد الأفريقي، بل إن تسمية الوثيقة التأسيسية للاتحاد الأفريقي بإعلان سرت، البلدة التي كانت مسقط رأس القذافي، لم يكن محض صدفة.24 ويقابل إيجابيات وجود شخص كارزماتي يدعم حلم الاندماج أمر سلبي هو ارتباط هذا الحلم، في العقل الشعبي، بالمصلحة السياسية لهذا لشخص.
ولكن يجد الباحث أمثلة تثبت أن فشل محاولات الاندماج ليس أمراً حتمياً. ولعل أشهر هذه الأمثلة هو توحيد ألمانيا عام ۱۹۹۰م. لكن قد يقول قائل إنّ هذه حالة لها خصوصيتها، إذ أن ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية لم يتجاوز عمرهما ٤٥ عاماً، ويُضاف إلى ذلك الدعم المحلي والدولي الكبيرين الذي لقيته مساعي توحيدهما، فضلاً عن وجود مخزون كبير من الثورات لم يكن متوفّراً في حالتي توحيد السنغال ومالي وتوحيد مصر وسوريا. ويمكن، مرة أخرى، الردّ على هذا الرأي بالقول بأن حالة ألمانيا تُضيء شمعة من الأمل لإعادة توحيد وحدات أخرى تجمعها قيم تاريخية وثقافية ودينية متجذّرة. ولكن حتى مع وجود هذه الروابط التاريخية القوية، تنزع الدول إلى حماية سيادتها، وتستطيع أن تتلمّس هذا الامتعاض في ملامح أي موريتاني عندما يسمع شخصية مغربية يشير إلى فكرة «المغرب الكبير».25
وما يمكن استنتاجه من كلّ هذه الأمثلة بأن مسار اندماج الأمة لن يكون على الأرجح بمشروع يحتوي الدول الموجودة واحدة تلو الأخرى حتى نصل إلى وحدة رسمية واحدة كبيرة، أو لن يكون ذلك في المستقبل القريب على الأقل. فإيجاد وحدات فوق قومية هو خيار غير عملي في الوقت الراهن، نظراً لعدد من العوامل منها عدم سعي الدول وقادتها إلى تحقيق مشاريع كهذه بنية صادقة أو رغبتهم بتحقيق مكاسب سياسة ضيقة من ذلك لا أكثر، وصعوبة استدامة الوحدات فوق القومية التي تدوم أجلاً قصيراً، وتقلّبات حال الزعماء الكارزماتيين صعوداً وهبوطاً. إلا أن مثال ألمانيا، في المقابل، يثبت أن إنجاح الاندماجات أمر ممكن إذا ما كان هناك تاريخ وثقافة مشتركان وإرادة سياسية لتحقيق ذلك. ونرى في حالة الاتحاد الأفريقي أيضاً أن قصور المساعي الاندماجية عن تحقيق أسمى طموحاتها بإيجاد وحدة أو اتحاد فيدرالي كامل الأركان قد يثمر أيضاً مستوى أعلى من الاندماج لم يكن سيتحقّق دون السعي وراء هذه الطموحات.
الاستنتاج الثالث: تنزع بعض القوى الإقليمية أو العالمية إلى الهيمنة على المنظّمات التي يُراد أن تكون إشراكية ومتعدّدة الأطراف في غالب الحالات
تصدّر المنظّمات متعدّدة الأطراف ومشاريع الاندماج عادة خطاباً يُعلي قيم الديمقراطية والمساواة، بينما تعرّي تدافعاتها الداخلية حالة متجذرّة من غياب المساواة. ويُوجد عدد من العوامل التي تؤثّر بديناميكيات القوة داخل هذه المنظّمات، منها موقع المقر الرئيسي، وهيكلية التمويل، وكيفية توزيع السلطات واختيار أصحاب القرار داخل المؤسّسة. ويجسّد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هذه المعادلة على المستوى العالمي، إذ أن المجلس يتألّف من خمسة أعضاء دائمين (هم الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وروسيا، والصين)، وتتمتّع كلّ دولة من هذه الدول بحقّ نقض القرارات، أو الفيتو، الذي ينافي أحياناً بشكل واضح التوجّه الذي اتفقت عليه الغالبية العظمى من أعضاء الجمعية العامة. ولا تقتصر هذه الظاهرة على المستوى العالمي دون المستوى الإقليمي، فانظر مثلاً إلى منظّمة الدول الأمريكية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، ولو أنها قد تقدّم أحياناً بعض التنازلات للأعضاء الآخرين، بل وتخسر في بعض النزاعات، خصوصاً عندما تتحد الدول الأخرى ضدها.26 وخلاصة القول أنّ القوى الكبيرة تهيمن على المنظّمات متعدّدة الأطراف وتتخذ قرارات أحادية، إذا لم تسر الأمور كما ترغب هذه القوى، مما يُضعف هذه المؤسّسات.
ولا شكّ أن أي منظّمة أمتيّة متعدّدة الأطراف ستتعرّض لهذه المشاكل. ولا يعني ذلك بأن هذه المشكلة لا حلّ لها، فالقصد هو ضرورة التنبّه إلى هذه المشاكل والتعامل معها تعاملاً جاداً. ستواجه مشاريع الاندماج الأمتي معضلات في سعيها لتأمين دعم فاعلين أقوياء من شأنهم تقديم دعم سياسي ومالي لا غنى عنه إذا ما أرادت هذه المشاريع أن تنجح، ولكن قد يقترن ذلك بهيمنة هؤلاء الفاعلين مما قد يستفز الأعضاء الأضعف أو غيرهم من الفئات الداعمة. ولكن قد يسرّع تأمين دعم دولة قوية واعدة عجلة الاندماج الأمتي شريطة أن يستأمن مفكّرو الأمة هذه الدولة على أن تكون العماد الذي يقوم عليه المشروع متعدّد الأطراف.
الاستنتاج الرابع: تأسيس كتلة إقليمية يمكن أن يؤدّي إلى ردود فعل كإيجاد كتلة منافسة، وهذا مما يهدّد مسار تحقيق المزيد من الاندماج
لا يتبع الاندماج مع النظام العالمي مساراً خطياً مستقيماً، وهذا، في جزء منه، بسبب ظاهرة تأسيس كتل ردّاً على تأسيس كتل أخرى، وهذا بدوره يؤلّب التوتّرات التي تهدّد فرص تحقيق مستوى أعلى من الاندماج. وأشهر الأمثلة على ذلك حلف الناتو وخصمه حلف وارسو. وقد يقول قائل إن الناتو وحلف وارسو ليسا إلا تجلٍّ لخصومات جيوسياسية تسبق تأسيسهما في مناخ الحرب الباردة، إلا أنّ الخصم قد يرى خطوة تأسيس منظّمة رسمية بحد ذاتها على أنها خطوة عدوانية أو تهديد. كما أنّ الكثيرين باتوا يتساءلون هل هناك مبرّر لاستمرار وجود الناتو بعد انتهاء الحرب الباردة، وترافق ذلك مع ردّة فعل شرسة من روسيا على مساعي توسيع حلف الناتو. وفي غمرة النقاشات الطويلة الشائكة عن أسباب غزو روسيا لأوكرانيا عام ۲۰۲۲م خصوصاً في سياق توسّع حلف الناتو، يجمع كثيرون على أنّ توسّع الناتو هو أحد العوامل الرئيسية الذي أشعلت شرر تلك الحرب.
إنّ الدرس الذي يجب أن تتفطّن له الأمة، في هذا السياق، هو أنّ المساعي الجادة لتحقيق الاندماج ستؤدّي إلى ردود فعل داخل الأمة نفسها. ولا يلزم أن تكون ردود الفعل هذه دراماتيكية إلى حدّ الحرب، ولكن قد تفضي إلى شيء من العداوات والتداخل غير المفيد والحرج. وأحد المؤشّرات المبكّرة على هذه المشكلة هي البنيتان المتنافستان والمتوازيتان اللتان أنشأتهما المغرب والجزائر لمحاولة كسب ود العلماء الأفريقيين. إلا أنّ هذا التنافس لم يكن صفرياً، فقد رأينا عدداً من الدول الأفريقية التي انضمت، عن رغبة وحماس، لكلا المنظّمتين. ولعل وجود قدر من التنافس داخل الأمة هو من التنافس المحمود المثمر. ولكن في هذه الحالة أيضاً، أدّى هذا التنافس إلى وقوع ما أريد له أن يكون روابط علمانية في شباك التجاذب السياسي الإقليمي الذي أدّى إلى مناخ من التوتّر خيم على هذه المنظّمات، وحوّل الدول الأفريقية في منطقتي شمال الصحراء وجنوب الصحراء إلى عملاء للقوى الإقليمية. ولهذا لا غرابة إن أدّت المزيد من المساعي الطموحة لتوحيد الأمة إلى ردود فعل أقوى حتى.
الاستنتاج الخامس: يثبت التاريخ أن تيسير التجارة والتنقّل عبر الحدود وما يتناسب مع ذلك من زيادة حرية تنقّل الأشخاص والعمالة ورؤوس الأموال ضمن مناطق إقليمية معيّنة، هي الصورة الأكثر نجاحاً واستقراراً من صور الاندماج في عالم ما بعد عام ۱۹٤٥م
ينحاز هذا الاستنتاج أكثر إلى المنظور الوظيفي الجديد للاندماج بتركيزه على الاندماج على المستوى الاجتماعي. ولعل ذلك يجلب إلى الأذهان رأي السياسي الفرنسي جان موني/Jean Monnet (توفّي عام ۱۹۷۹م) الذي قال بأنّ الاندماج يخلق «سلسلة من التفاعلات» التي تخلق بدورها المزيد من التفاعلات.27 فإن أردنا تعريف الاندماج الناجح بأنه المساعي التي أثمرت أكبر وأبقى تأثير في حياة الناس العاديين (وسؤال هل كانت هذه التأثيرات إيجابية أو سلبية هو مسألة أخرى)، فإن الاتحاد الأوروبي والكيانات التي سبقته سيكون على الأرجح على رأس قائمة الاندماجات التي نجحت منذ عام ۱۹٤٥م. كان الاتحاد الأوروبي ثمرة طموح قديم بالاندماج الأوروبي اكتسبت زخماً خلال الحرب العالمية الثانية. وشهدت فترة ما بعد الحرب سلسلة من المبادرات كان منها مجلس أوروبا (۱۹٤۹م)، والمجموعة الأوروبية للفحم والصلب (۱۹٥۱م)، والمجموعة الاقتصادية الأوروبية (۱۹٥۷م)، والمجموعات الأوروبية (۱۹٦۷م)، وقواعد شنغن (۱۹۸٥م)، والاتحاد الأوروبي (۱۹۹۳م). وكما تدلّل هذه القائمة الطويلة من الأسماء والتواريخ الهامة، بُنيت ركائز الاتحاد الأوروبي على سلسلة من الاتفاقيات التجارية والاقتصادية التي لا تزال تشغل حيزاً هاماً من علاقات الدول الأوروبية حتى اليوم. ولا يخفى على أحد ما يقدّمه هذا النظام من فوائد ومزايا اقتصادية للعديد من الدول والأفراد، وهو ما يبرّر صلابته على الرغم من وجود انتكاسات حقيقية، ولكنها غير مهلِكة، سيأتي نقاشها في الجزء التالي.
يمثّل الاتحاد الأوروبي كتلة سياسية وأيضاً اقتصادية، فقد وُلد من رحم عدد من الأسئلة السياسية والعسكرية والحقوقية، فضلاً عن نظيرتها الاقتصادية. إلا أن الاتحاد الأوروبي لم يقوّض سيادة الدول الأعضاء فيه بصورة جوهرية على خلاف مزاعم مناصري بريكست بأنّ «بيروقراطيي بروكسل» أصبحوا يتحكّمون بأصغر تفاصيل الحياة في بريطانيا. وتتجلّى أولويات الاتحاد الأوروبي وترتيبه لقيمه تجلّياً لا لبس فيه عندما يرى المرء ردة فعله على أزمة ديون اليونان مقارنة بردة فعله على انتهاكات قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في المجر. وبشيء من الاختصار الشديد، هبّ الاتحاد الأوروبي واستخدم سلطته وفعل الكثير في اليونان لحلّ مشاكل اقتصادية أكثر مما فعل في المجر لحل مشاكل سياسية.28 فقد غلب على أوروبا، أو على الأقل أوروبا القارية/Continental Europe [التي يُقصد بها المساحة البرية الرئيسية في أوروبا التي لا تشمل المملكة المتحدة وإيرلندا أيسلندا]، التردّد عندما شعرت بأنها ستفقد الفوائد الاقتصادية التي راكمتها بفضل الاتحاد.
وقد يقول قائل إنّ الاتحاد الأوروبي هو انعكاس لخصوصية التجربة الأوروبية وتحديداً رغبتها بمنع حدوث فظائع الحربين العالمتين. ولا شكّ أن هذه الصدمات ساهمتا كثيراً في تشكيل ما يُعرف اليوم باسم الاتحاد الأوروبي. ولكن هناك أمثلة أخرى في العالم تثبت ذات الاستنتاجات التي وصلنا إليها كالمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، حيث ازدادت مستويات التنقّل بين الحدود زيادة بارزة منذ توقيع الأعضاء على بروتوكول حرية تنقّل الأشخاص والإقامة وتأسيس الأعمال عام ۱۹۷۹م. وصحيح أن عملية تنفيذ البروتوكول تخلّفت تخلّفاً كبيراً عما كان مخطّطًا له، وقد كان من جملة أسباب ذلك الركود الاقتصادي والحروب التي وقعت في بعض الدول، ولم تتجاوز عملية التنفيذ المرحلة الثالثة (التي تسمح بإقامة مواطني هذه الدول دون تأشيرة لمدة تصل إلى ۹۰ يوماً)، دون تحقيق حرية تنقّل كاملة. ولكن «مستويات حرية التنقّل في إقليم المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا تتفوّق بلا شكّ على جميع التكتّلات الإقليمية الأخرى في أفريقيا». وما زال التوجّه العام ينحى باتجاه تحقيق المزيد من الحرية.29
ثمة هناك فوائد جلية لضمان حرية أكبر للناس في سياق الأمة كما سيأتي تفصيله، ويُضاف إلى ذلك أن من الصعب نسبياً عكس قرارات مثل تخفيف القيود على الحدود والحركة. فإذا تقاطعت المصالح وبدأ تنفيذ عملية من هذا النوع، فسيكتسب الاندماج على المستوى الاقتصادي ومستوى الحركة زخماً تلقائياً. كما يمكن للاندماج الاقتصادي أن يمهّد الطريق لاندماج سياسي وعسكري كما يتضح من مسار اندماج المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ومجلس التعاون الخليجي ربما) الذي بدأ من نقطة تأسيس تكتّلات اقتصادية وتحوّل بعد ذلك إلى منظّمات متعدّدة الجوانب لها هويتها الدبلوماسية الخاصة.
الاستنتاج السادس: كل مشاريع الاندماج يمكن أن تنتكس، مهما كانت ناجحة
على الرغم من الفوائد التي أتى عليها الجزء السابق من هذه الورقة، لا يمكن تجاهل حالة بريكست التي تمثّل أشهر مثال في الفترة الأخيرة على انتكاس مشروع من مشاريع الاندماج. ففي عام ۲۰۱٦م، أفضت نتيجة استفتاء شعبي في المملكة المتحدة إلى انفصالها عن الاتحاد الأوروبي بعد تأييد ما نسبته ٥۲% من المصوّتين لقرار الانسحاب، مقابل ٤۸%، وهو ما أجبر المملكة المتحدة على خوض جولات مطوّلة من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي تمخّضت في النهاية عن الانسحاب الرسمي لبريطانيا عام ۲۰۲۰م. وجسّد استفتاء بريكست الانقسامات الموجودة في المشهد السياسي الداخلي في المملكة المتحدة التي مسّت ملفات مثل المهاجرين والتأثير طويل الأمد للعولمة على الاقتصاد والانقسامات بين الأجيال المتعاقبة. بل إن نتيجة الاستفتاء فاجأت ديفيد كاميرون (David Cameron) نفسه، رئيس وزراء بريطانيا في ذاك الوقت، الذي كان هو من أمر بإجراء الاستفتاء، ولكنه لم يتوقّع ما حصل بعد ذلك، وقد عبّر لاحقاً عن ندمه عن تلك الأحداث وتداعياته الجسيمة.
لم يكن هناك شعور في أوروبا القارية أن بريكست تشكّل تهديدًا على نسيج الاتحاد الأوروبي، إلا أن تلك الأزمة كانت انعكاساً ومحفّزاً لتيار الريبة من الاتحاد الأوروبي (Euroskepticism) في العديد من الدول الأوروبية، وهو ما أثار التكهّنات عن احتمالية اقتداء دول أخرى بالمملكة المتحدة وانسحابها من الاتحاد الأوروبي. وقد قدّمت ورقة كُتبت عامة ۲۰۱۹م بعض الأجوبة المقنعة عن هذه الأسئلة، بأن المملكة المتحدة اختصت ببعض النزعات التي مهّدت الطريق لانسحابها، منها عدم رضا مواطنيها عن الاتحاد الأوروبي، وعدم اندماجها الكامل مع مشروع الاتحاد (ومن ذلك عدم اعتمادها عملة اليورو)، وبنيتها الحكومية التي لا تسمح إلا لعدد محدود من الهيئات الحكومية بنقض قرار الانسحاب. وخَلُصت الورقة نفسها إلى أن إيطاليا، من بين دول الاتحاد الأوروبي، هي الأقرب للانسحاب بعد المملكة المتحدة.30 وبالفعل، أحيا انتخابُ إيطاليا لائتلاف يميني ستترأسّه على الغالب جيورجيا ميلوني (Giorgia Meloni)، التكهّنات بسعي إيطاليا للانسحاب من الاتحاد الأوروبي.31 إلا أن مسودة برنامج مسرّبة احتوت تفاصيلَ عن خطط الأحزاب اليمينية لحكم إيطاليا أظهرت أن الريبة من الاتحاد الأوروبي لن تتجاوز كونها ورقة في المفاوضات، وليست نواة سياسات فعلية.32وفي المقابل، أثارت التكهّنات عن فتح بريكست الباب لانضمام عضو جديد للاتحاد الأوروبي، وهو اسكتلندا، إن أتى اليوم الذي تحصل فيه على الاستقلال بالاستفتاء الشعبي. تجسّد بريكست، باختصار، وجود احتمالية دائمة لانتكاس مشاريع الاندماج، ولكنها تثبت أيضاً أن انسحاب عضو من الأعضاء لا يؤذن بالضرورة ببداية انهيار محتوم. وعلى المدى الطويل، يمكن لبعض الدول غير المقتنعة أن تعود لاحقاً إلى المنظّمات التي انسحبت منها كعودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي عام ۲۰۱۷م بعد انسحابه من منظّمة الوحدة الأفريقية، التي سبقت الاتحاد ، عام ۱۹۸٤م. ولكن الأحداث الأخيرة تؤجّج النقاشات المستمرة عن النماذج التي يمكن للاتحاد الأوروبي أن يعمل بها مستقبلاً، وقد تضمّن ذلك مقترحات عديدة كـ«أوروبا حسب الطلب»، و«أوروبا واحدة وسرعات مختلفة»، و«أوروبا المركز» (Europe à la Carte, Multi-Speed Europe, and Core Europe).
ولو أردنا تطبيق هذه الدروس في أمتنا، فنقول إنه ليس من الحكمة أن تتوقّع أي منظّمة أمتيّة متعدّدة الأطراف أن يكون الطريق أمامها سهلاً وميسّراً. فقد ناقشت الأجزاء السابقة من هذه الورقة أن مشاريع الاندماج الأمتيّة يمكن أن تولّد ردود فعل، وتنافسية، وخصومات، وناقش هذا الجزء مشكلة الانسحاب، وعدم المشاركة، ووجود التوتّرات الداخلية دائماً. ولكن مما يبعث على الأمل هو أن انسحاب عضو مهم ورئيسي حتى لا يعني بالضرورة هلاك المنظّمة أو السعي، كما نرى في حالة المغرب والاتحاد الأفريقي، أو في حالة الشراكة عبر المحيط الهادئ التي استمرت تحت مسمّى الاتفاقية الشاملة والتقدّمية للشراكة عبر المحيط الهادئ (Comprehensive and Progressive Agreement for Trans-Pacific Partnership) حتى بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية التجارة عام ۲۰۱۷م.
الاستنتاج السابع: الإفراط في التعدّدية يمكن أن يُؤتي نتائج عكسية
إن بَذْل المزيد من الجهد لتحقيق الاندماج لا يثمر بالضرورة قدراً أعلى من الاندماج، وقد يدفع فشل إحدى المحاولات إلى المزيد من المحاولات بدلاً من إعادة تقدير الموقف، خصوصاً عندما تحاول أطراف خارجية التدخّل مرة بعد مرة. وقد شهد إقليم الساحل حدوث هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة، مع المحاولات المستمرة التي قادتها فرنسا (على الصعيد العسكري والمدني)، والتي شكّلت عملية غلب عليها التخبّط والتراكم غير المفيد وفي النهاية الفشل، حتى أن أحد المراقبين كتب متهكّماً عن ارتداء الإقليم «لبضع عشرة طبقة كاكي» كناية عن المحاولات المتتالية، والفاشلة، التي شهدها الإقليم.33 ويرتبط بذلك شعور الحقد والممانعة الذي قد يتولّد من قناعة شعوب إقليم ما بوجود قوى ومصالح خارجية وراء محاولات كهذه، ومن ذلك مثلاً الاحتجاجات الواسعة التي اندلعت في أعقاب نقل مقر القوات المشتركة لدول مجموعة الساحل الخمسة، المدعومة من فرنسا، إلى العاصمة المالية باماكو.34 وحتى وإن كانت المحاولات الإقليمية نابعة من الإقليم نفسه، فإن الإفراط ومضاعفة المحاولات قد يؤدّي إلى مشاكل. فيكتب أحد خبراء إقليم شرق آسيا: «يُوجد عدد لا يُعقل من المؤسّسات متعدّدة الأطراف المتقاطعة والمتعاقبة في الإقليم، وهذا إفراط في المؤسّسات».35 فمبدأ الجودة قبل الكمّ ينطبق أيضاً على الاندماج الإقليمي والعالمي.
والدرس الذي يمكن أن تستفيد منه الأمة في كل هذا هو أن التصميم المتقن، والتخطيط المتأنّي، والعمل الموجّه، كلها أمور لا غنى عنها لتحقيق اندماج ناجح وتجاوز عقبات مثل الخصومات بين الدول، وتغوّل قوى إقليمية وعالمية على المنظّمات متعدّدة الأطراف. ونجاح أي مؤسّسة يُقاس بتحقيقها لأهدافها، وليس بعدد المحاولات. وإذا فشل مشروع، فقد يكون الخيار الأنجع هو محاولة إصلاح هذا المشروع من الداخل، بدلاً من البدء بمشروع جديد لا مبرّر لوجوده ومراكمة المشاريع فوق بعضها البعض.
الاستنتاج الثامن: معظم نماذج الاندماج التي قامت منذ عام ۱۹۹۱م ولا تزال صامدة حتى اليوم كانت متوافقة مع الرأسمالية وخاضعةً لها، ولكن مع تمتّعها بالقدرة على التكيّف
يعود تأسيس مجمل نماذج الاندماج التي تناولتها هذه الورقة إلى ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي عام ۱۹۹۱م، ومعظمها أيضاً استمر بعد تلك النقلة التاريخية، طبعاً باستثناء حلف وارسو والمنظّمات الأخرى التي كانت تستند على الاتحاد السوفيتي. تشترك هذه المنظّمات، وديمومتها، في عنصر واحد هو توافقها مع نظام عالمي تهيمن عليه الرأسمالية. ولعل أكثر مثال مباشر على ذلك هو مؤسّسات بريتون وودز، التي تأسّست عام ۱۹٤٤م، وهي اليوم أساس مركزي في النظام الرأسمالي العالمي الذي يهيمن عليه الغرب.36 ويكتب أحد مؤرّخي صندوق النقد الدولي بصريح العبارة أن رفض الكتلة السوفيتية المشاركة في الصندوق جعل من «صندوق النقد الدولي نادياً بطابع رأسمالي مهيمن ساعد على إرساء أسس استقرار الاقتصادات التي تعمل بنظام اقتصاد السوق».37 وبسط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي سلطة كبيرة على العالم لأن معوناتهما وقروضهما المشروطة تتوافق، ولا تتعارض، مع مصالح الحكومات والبنوك الغربية الكبيرة. ومنذ البداية، قال البنك «أن محاولته لتحسين البيئة السياسية من خلال الشروط التي يفرضها والمساعدة التقنية التي يقدّمها نيابة عن الحكومات المقترضة تهدف إلى تحسين مناخ الاستثمارات الدولية الخاصة».38 وبات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مكوّنان أساسيان من توافق واشنطن (Washington Consensus) الذي صاغ ملامح التفكير والسياسات التي تمسّ لبرلة السوق (Market Liberalization) وإعادة هيكلة الدول في التسعينات. ولهذا تغلب الهوية الرأسمالية على الاندماج الذي يحرّكه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وتستمد هذه الصور من الاندماجات قوتها من النفوذ الاقتصادي الكبير لهاتين المؤسّستين. ولكن في الوقت نفسه، استطاع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التكيّف مع الظروف والقيم المتغيّرة، وركّزوا على أولويات جديدة مثل التغيّر المناخي، وتشكّلت لديهم جوانب مختلفة مع مرور الوقت.
رافق اندماج الصين المتزايد مع النظام العالمي الكثير من المفاوضات داخل الصين وبينها وبين باقي العالم على حد سواء، ومسّ ذلك جوانب مثل علاقة الصين بالرأسمالية و«التجارة الحرة». وعلى الرغم من أن الصين لا تزال رسمياً دولة شيوعية، فالوصف الأكثر إقناعاً لنظامها الاقتصادي هو أحد صور «رأسمالية الدولة» التي تنافس فيه المشاريع المملوكة من الدولة في الأسواق المحلية والعالمية. انضمت الصين لمنظّمة التجارة الدولية عام ۲۰۰۱ بعد تقديمها للعديد من التنازلات في سياساتها الاقتصادية، ولكن ولّد ذلك أيضاً نقاشات طويلة مستمرة تمحورت حول مزاعم بأن الصين تتلاعب بالعملات و«تفرض تحوّلات تكنولوجية على الأعمال الأجنبية مقابل السماح لها بالدخول للسوق الصيني».39 وما يهمّنا وأمتنا في ذلك أن حتى الصين، أحد الدول العظيمة العالمية الصاعدة، لم تجد مفرّاً من إحداث تغييرات جوهرية للانضمام إلى منظّمة كبيرة متعدّدة الأطراف، وأن الخروج عن خطّ النظام العالمي الرأسمالي وتوقّعاته قد يؤدّي إلى توتّرات كبيرة.
بل يمكننا حتى أن ننظر إلى نظام الأمم المتحدة على أنه متمّم للرأسمالية العالمية، مع بعض التحفظّات. فأوسع التدخّلات العسكرية والسياسية والحقوقية التي قامت بها الأمم المتحدة كانت في دول الهامش في سياق النظام الرأسمالي العالمي، أي أن جانباً كبيراً من دور الأمم المتحدة في المساحة السياسية يوازي دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في المساحة الاقتصادية، وهو محاولة إرساء أسس الاستقرار في دول الهامش. كما أن الأمم المتحدة قدّمت نفسها، ولم يكن ذلك سهواً، في الفترة المفصلية التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي على أنها جسر إلى «رأسمالية إشراكية». وكما كتب أحد المؤلّفين عن ولاية كوفي عنان /Kofi Annan (۱۹۹۷-۲۰۰٦م): «وضعت الأمم المتحدة يدها بيد مؤيّدي «الأعمال التجارية الواعية اجتماعياً [Social-Minded Business] في تحالف كان أقرب للخيال قبل عقد فقط، وتجلّى هذا التحالف بطريقة صياغة مفاهيم أساسية مثل الرأسمالية الإشراكية والعولمة الإشراكية في نصوص الإدارة وبعض من منشورات الأمم المتحدة المهمة».40 ولكن يوجد شيءٌ من الشد بين عمل الأمم المتحدة، وتحديداً دورها التنسيقي في مجال مجابهة أزمة المناخ، ومقتضيات الرأسمالية. وقد تحدّث الأمين العام الحالي للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس (Antonio Guteres) علناً، وأكثر من غيره نسبياً، عن قضايا غياب المساواة العالمية مع ربطه لها لكيفية هيكلية السلطة في مجلس الأمن ومؤسّسات بريتون وودز، وغيرها، وأيضاً عن «الكذب بأن الأسواق الحرة تستطيع توفير التأمين الصحي للجميع، والخيالات التي تقول إن عمل الرعاية غير المدفوع هو ليس عمل، والتوهّم بأننا نعيش في عالم ما بعد عرقي، وعن خرافة أننا جميعاً نشترك في الطريق والمصير».41
تفرض الطبيعة المتشعّبة للعولمة المعاصرة والرأسمالية أسئلة عميقة على الأمة، التي كانت نفسها جزء من العولمة والرأسمالية، ولو أن بعضنا اختار ذلك طوعاً وبعضنا الآخر أُكره إكراهاً على ذلك. يمثّل القطاع المالي الإسلامي العالمي أحد صور الاستجابة للرأسمالية العالمية بتمايزه عنها، ولو أنه يتوافق معها (وربما يفرط في الخنوع لها). إلا أن الاندماج مع السوق العالمي قد أحدث اضطرابات كبيرة في العديد من نواحي الأمة، ونرى اليوم العديد من الدول ذات الغالبية المسلمة التي تتجرّع ذل «التكيّف الهيكلي» وما يُعرف بالصدمات العلاجية (Shock Therapy). ونجد اليوم آراء متعدّدة عن العلاقة بين الإسلام والرأسمالية، بين من ينادي بالاعتناق الكامل للرأسمالية وبين من ينادي بقبول حذر للرأسمالية مع ضمان بعض جوانب الرفاه الاجتماعي، وبين من يؤكّد أن الإسلام يمثّل نظاماً اقتصادياً وأيديولوجياً متمايزاً، وبين من يقول إن الإسلام في جوهره يتوافق أكثر مع الاشتراكية لو استثنينا منها المادية التاريخية والأنطولوجية المرتبطة بالفكر الماركسي. ولا بد من تقديم الإجابات على سؤال العلاقة بين الإسلام والرأسمالية على المدى الطويل إذا ما أردنا أن نحدّد ماذا نريد من المنظّمات الأمتيّة أن تحقّق، وكيف يمكن تمويل هذه المنظّمات وإدامتها، وكيف ترتبط بالمنظّمات العلمانية. ويُؤخذ على مفكّري الأمة انشغالهم بالدرجة الأولى بالاندماج السياسي العالمي مع أن وتيرة الاندماج الاقتصادي العالمي في فترة ما بعد ۱۹٤٥م كانت أسرع بكثير من وتيرة الاندماج السياسي.
الاستنتاج التاسع: سيكون من الصعب إعادة صياغة نماذج الاندماج العلماني بطابع إسلامي واضح في ظلّ الظروف الراهنة نظراً لأن نماذج الاندماج، خصوصاً على المستوى الإقليمي، ترتكز على تصوّرات علمانية لمفهوم المواطنة
لعل مما يلحظه الجميع في زمننا هذا أن الأيديولوجيات المهيمنة، بمختلف مشاربها، ترى أن الدولة لها الحقّ في التمييز في معاملة الناس بناء على جنسيتهم، ولكن تستقبح التمييز على أساس الهوية الدينية. فالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وغيرها من المنظّمات التي تناولتها هذه الورقة تعتمد في نظام عضويتها على معيار الدولة القومية، التي تُعرّف بمساحتها الجغرافية والاعتراف الرسمي والكامل بأنها دولة. بل حتى المنظّمات التي تنشط في مناطق ذات غالبية مسلمة ساحقة، كالجامعة العربية واتحاد المغرب العربي ودول مجموعة الساحل الخمسة تعمل بمنطق الدولة القومية في اعتماد أعضائها، وكذلك منظّمة التعاون الإسلامي نفسها (وهو ما يساعد على فهم الجدل الداخلي الذي يُثار عند اتخاذ دولة لقرار الانضمام للمنظّمة كما حدث في نيجيريا).42 ومع أن هذه الورقة لا تسعى إلى مناقشة سؤال تأثير العولمة على مكانة الدولة، ولكن يمكننا أن نلاحظ على المدى القصير أن موجات الهجرة الكبيرة وبروز ظاهرة انتشار الجاليات التي تشترك في جنسيتها في أماكن متباعدة جغرافياً قد عزّزت أهمية المواطنة الجغرافية، بدلاً من إضعافها.
وفي ظلّ سؤال العضوية وأساسها، يصبح من الصعب استيراد نماذج الاندماج العلماني كما هي في السياق الأمتي. فإن اختارت المنظّمة متعدّدة الأطراف اعتماد نموذج الدولة القومية، فهي بذلك تدين بالعلمانية، وهو ما قد يثير الجدل، وإن اختارت المنظّمة معاملة الناس على أساس دينهم (مسلم أو غير مسلم)، فهي قد تواجه كذلك الكثير من الجدل وردود الفعل. إلا أن القطاع الخيري الإسلامي يظهر لنا أن التحرّك على أساس التضامن الديني عبر الحدود أمر ممكن، حتى في عالم تهيمن عليه قوى غير مسلمة، ولكن في الوقت نفسه تعطينا المراقبة اللصيقة، وأحياناً العداء، الذي تواجهه المنظّمات الخيرية الإسلامية لمحة عن العداء الذي قد تواجهه أي منظّمة أمتيّة سياسية لها وزنها.
الاستنتاج العاشر: يتوجّب على المفكّرين الأمتيين دعم صور معيّنة من الاندماج «العلماني» ومناصرتها لما لها من فوائد أمتيّة، والقصد صور الاندماج التي تسمح بحرية تنقّل أكبر.
لا تملك الأمة مساحة جغرافية مركزية يمكن أن تشكّل حجر أساس مشروع أمتي، ولهذا فإن مؤلّف هذه الورقة يرى أن أمل الأمة في الوقت الراهن يكمن في تبادل الأفكار، وهو ما سهّله الإنترنت إلى حد كبير، كما سرّعت جائحة كورونا دوران عجلة التواصل الافتراضي العالمي. ولكن لا يمكن أبداً إغفال الأهمية الكبيرة للقاءات الحضورية في التعاون، ويترتّب على ذلك أن حرية حركة الناس هو أمر آثاره محمودة على الأمة، ومفكّريها وناشطيها على وجه الخصوص. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى مشروع الاتحاد الأوروبي، ونحن ندرك أنه ليس مشروعاً أمتياً لا من قريب ولا من بعيد، وما كان له من فوائد معيّنة على الأمة، وبالشاكلة نفسها كانت آثار بريكست سلبية على الأمة. ولهذا يمكن لنشطاء الأمتيين، بل ويجب عليهم، مناصرة المبادرات المرتبطة بحرية الحركة، كمبادرة «الجواز الأفريقي» مثلاً التي اقُترحت في قمة الاتحاد الأفريقي عام ۲۰۱٦م،43 ولكن أُهملت بعد ذلك. ويمكن العمل على مستوى أدق على إبراز الهوية العالمية والإقليمية على حساب الهوية القومية، لما في ذلك أيضاً من آثار إيجابية على الأمة. ولا شكّ أن الهويات الإقليمية هي الأخرى تُثير شتى صور الشوفينية، ولكن أثبتت التجارب أنها أقل وبالاً من الشوفينية القومية.
يمكن للمفكّرين الأمتيين أيضاً دعم جملة المساعي التي تهدف إلى تعزيز السلام والاستقرار. والمنظّمات متعدّدة الأطراف، على الأقل، هي من أبرز الفاعلين الساعين إلى حلّ النزاعات العنيفة حول العالم، بما في ذلك النزاعات التي تمسّ الأمة، مثل قضايا فلسطين، والصحراء الغربية، ودارفور، وكشمير، وغيرها. وفي المقابل، ساهمت المنظّمات متعدّدة الأطراف أحياناً في إعاقة حلّ بعض من هذه النزاعات، كاستخدام الولايات المتحدة لحق النقض في مجلس الأمن ضد قرار إدانة بناء المستوطنات غير الشرعية في فلسطين. كما نُشرت تقارير مخيفة في بعض الأحيان عن مسؤولية قوات حفظ السلام الأممية عما بدا أنه اعتداء واستغلال منهجي للمدنيين. وهنا يجب على المفكّرين الأمتيين النظر في كل قضية على حدى لرؤية هل الأفضل دعم استخدام العنف في هذه الحالة أم لا، بدلاً من تعميم الموقف من العنف، والتنبّه والتأنّي في دراسة أسئلة المحاسبة والعواقب غير المقصودة. ويجد الباحث أمثلة على تدخّلات إيجابية، منها إرسال المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا لقواتها الاحتياطية لتنحية الرئيس الغامبي يحيى جامع عام ۲۰۱۷م بعد تراجعه عن قراره بقبول هزيمته في الانتخابات، وقد كان هذا التدخّل بشرى خير على العديد من المواطنين في غامبيا. وفي المقابل، كان قرار الجامعة العربية بدعم تدخّل الناتو في ليبيا عام ۲۰۱۱م مثالاً على قرار خاطئ أخذته منظّمة متعدّدة الأطراف في دولة ذات غالبية مسلمة لما أعقب ذلك القرار من انزلاق إحدى دول الجامعة إلى حالة من الفوضى.
وأخيراً، يرى المؤلّف أن على مفكّري الأمة التعامل بتوجّس شديد مع الفوائد المزعومة التي تُؤتيها «التجارة الحرة» و«التكيّف الهيكلي». فليس كل اندماج اندماجًا محمودًا، وليست كل صور «الحرية» متوافقة مع الفكر والعمل الأمتي على أقل تقدير. وإذا أراد الفكر الأمتي أن يتجاوز حدود نموذج الدولة القومية، فلا يعني ذلك أن تقوم هذه الدول باستئمان المؤسّسات التي يهيمن عليها الغرب على وضع سياساتها الاقتصادية في سبيل تسريع مسار الاندماج الأمتي. فبصرف النظر عن طبيعة النموذج الاقتصادية التي تختاره الأمة لنفسها، وهذه مسألة أخرى بعيدة عن موضوع هذه الورقة، يجب أن يكون هذا النموذج نموذجاً صنعته الأمة بنفسها.
خاتمة
مرّت هذه الورقة على عدد من محاولات الاندماج العلمانية ونماذج الحكومة العالمية التاريخي منها والمعاصر، وخصوصاً المنظّمات متعدّدة الأطراف، مع التركيز على إسقاط مقتضيات المشاريع على أي مشروع أمتي يمكن القيام به. غلب على معظم نماذج الاندماج الهيمنة الغربية والتوجّه الرأسمالي، ومشاكل مثل الاختلال الكبير في المساواة الداخلية بين الأعضاء، والتناقضات، والقصور. ولكن، على الرغم من ذلك، تقدّم هذه التجارب، وما فيها من نجاحات وإخفاقات، دروسًا لأي مشروع اندماج أمتي قد يقوم، ومن ذلك كيف يمكن هيكلة هذه المشاريع والتحدّيات التي قد تواجهها هذه المشاريع كالخصومات بين الأعضاء وصعوبة تطبيق مفاهيم بديلة للمواطنة والهوية السياسية، في الوقت الراهن، تخرج عن إطار اصطلاحات الدولة القومية.
تأخذنا هذه الورقة، والوضع الراهن للأمة، إلى أسئلة بحثية مهمة يجب العمل عليها في ما سيأتي، منها: أ. نجاح وقصور المنظّمات الإسلامية المتعدّدة الأطراف الموجودة اليوم، وتحديداً منظّمة التعاون الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي، ب. قدرة هذه المنظّمات القائمة من عدمها على المضي قدماً بالاندماج الأمتي بدلاً من اقتصار دورها على تقديم نماذج تُدرس، جـ. أسئلة التمويل والبناء التنظيمي للمنظّمات الأمتيّة التي يمكن بناؤها. إنّ الإجابة على هذه الأسئلة لهو أمر مفصلي في ترجمة النظرية الأمتيّة إلى واقع.
وبالنظر إلى المستقبل، فواضح أن على مفكّري الأمة بذل المزيد والمزيد من الوسع لبناء الأسس اللازمة التي ستقوم عليها أي منظّمة أمتيّة متعدّدة الأطراف تتمتّع بالقوة والتمكين، إذا أردنا تحقيق المزيد من الاندماج. وإذا كان لنا في ختام هذه الورقة أن نشدّد على بعض الأفكار التي أوردناها في البداية، فيبدو أن الاندماج من أسفل الهرم يقدّم فرصاً واعدة أكثر على المدى المتوسّط مقارنة بمحاولة تحقيق الاندماج من أعلى الهرم، كما أن الاندماج من أسفل الهرم يساعد على خلق الظروف المواتية لتحقيق الاندماج في أعلى الهرم. وعندما تتيسّر فرصة لتحقيق اندماج من أعلى الهرم، فالأنفع هو البدء على المستوى الإقليمي بدلاً من المستوى العالمي. وأفضل نموذج في هذه المرحلة هو نموذج إقليمي سريع الانتشار جغرافياً يتألّف من تكتّل من الدول القوية بما يحول دون تحوّل المنظّمة إلى أداة تتحكّم بها دولة واحدة.
* * *
الاقتباس المقترحة:
ألكساندر ثورستون، «نماذج الاندماج العلماني ونُظم الحوكمة العالمية: دروس للاندماج الأمتي»، ترجمة حمزة غضبان، أمّتكس، ٢٤ سبتمبر ٢٠٢٥، .https://ar.ummatics.org/secular-integration-models
هوامش
- انظر مثلاً:
John Ikenberry, “The End of Liberal International Order?” International Affairs 94, no. 1 (2018): 7-23.
-
John Mearsheimer, “Bound to Fail: The Rise and Fall of the Liberal International Order,” International Security 43, no. 4 (2019): 7-50, 16.text-
-
Kyle Lascurettes, Orders of Exclusion: Great Powers and the Strategic Sources of Foundational Rules in International Relations (Oxford: Oxford University Press, 2020).
- ما يجمع هذه المنظّمات قدرة الدول الأعضاء على الانضمام لها أو تركها طوعاً، ولو أن هذه الطوعية نسبية. ولكن وجود علاقة مع البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي يترتّب عليه شبكة من الالتزامات المالية الجبرية على أرض الواقع. كما أن هذه الورقة لا تتطرّق إلى مسألة استيلاء دولة على دولة أخرى أو ضمّها إليها أو غير ذلك من صور الاندماج القسري بين دولة وأخرى.
-
Joseph Kaminski, “Irredeemable Failure: The Modern Nation-State as a Nullifier of Ummatic Unity,” Ummatics Institute, December 14, 2022, https://ummatics.org/2022/12/14/irredeemable-failure-the-modern-nation-state-as-a-nullifier-of-ummatic-unity/.
- لنظرة عامة على هذه النظريات وتفسيراتها المختلفة للتطوّرات الأخيرة في منطقة اليورو، انظر:
Liesbet Hooghe and Gary Marks, “Grand Theories of European Integration in the Twenty-First Century,” Journal of European Public Policy 26, no. 8 (2019): 1113-1133.
- عن العلمانية، انظر:
Talal Asad, Formations of the Secular: Christianity, Islam, Modernity (Stanford, CA: Stanford University Press, 2003); and Hussein Agrama, Questioning Secularism: Islam, Sovereignty, and the Rule of Law in Modern Egypt (Chicago: University of Chicago Press, 2012).
- عن هذه المنظّمات، انظر:
Reinhard Schulze, “Transnational Wahhabism: The Muslim World League and the World Assembly of Muslim Youth,” in Wahhabism and the World: Understanding Saudi Arabia’s Global Influence on Islam, ed. Peter Mandaville (Oxford: Oxford University Press, 2022), 93-113.
-
Bob Reinalda, Routledge History of International Organizations: From 1815 to the Present Day (London: Routledge, 2009).
-
Shogo Suzuki, Yongjin Zhang, Joel Quirk, eds., International Orders in the Early Modern World: Before the Rise of the West (London: Routledge, 2016); and Ayse Zarakol, Before the West: The Rise and Fall of Eastern World Orders (Cambridge: Cambridge University Press, 2022).
-
Jamie Martin, The Meddlers: Sovereignty, Empire, and the Birth of Global Economic Governance (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2022).
- عن مؤتمر بريتون وودز والأسئلة الأوسع التي أهمّت العالم وقتها، انظر:
Benn Steil, The Battle of Bretton Woods: John Maynard Keynes, Harry Dexter White, and the Making of a New World Order (Princeton: Princeton University Press, 2013); and Eric Rauchway, The Money Makers: How Roosevelt and Keynes Ended the Depression, Defeated Fascism, and Secured a Prosperous Peace (New York: Basic Books, 2015), Chapters 11 and 12.
- للاطلاع على مثالين أفريقيين يبيّنان استمرار النفوذ الفرنسي في فترة ما بعد الاستعمار، انظر:
Nathaniel Powell, France’s Wars in Chad: Military Intervention and Decolonization in Africa (Cambridge: Cambridge University Press, 2021); and Fanny Pigeaud and Ndongo Samba Sylla, Africa’s Last Colonial Currency: The CFA Franc Story (London: Pluto Press, 2021).
- للاطلاع على أحد الأعمال الكلاسيكية التي تناولت الخيارات والتحدّيات التي واجهتها الشعوب المسلمة في سياق الاستقلال، انظر:
Marshall Hodgson, The Venture of Islam: Conscience and History in a World Civilization, Volume 3 (Chicago: The University of Chicago Press, 1974), Book Six, Chapter VII.
-
James Boughton, The IMF and the Force of History: Events That Have Shaped the Global Institution (Washington, DC: International Monetary Fund, 2014), 26-27.
- يذهب البعض إلى أن مهام حفظ السلام حقّقت نجاحات أكثر مما يتخيّل معظم الناس، وأن هذا النجاح ارتبط بقيام الأمم المتحدة بتفويض سلطة القرار إلى المهمة نفسها. انظر مثلاً:
Lise Howard, UN Peacekeeping in Civil Wars (Cambridge: Cambridge University Press, 2007).
-
Anjali Dayal, Incredible Commitments: How UN Peacekeeping Failures Shape Peace Processes (Cambridge: Cambridge University Press, 2021), 1
-
Mark Beeson, “Multilateralism in East Asia: Less than the Sum of Its Parts?” Global Summitry 2, no.1 (2016): 54-70, at 55.
-
Gregory Mann, From Empires to NGOs in the West African Sahel: The Road to Nongovernmentality (Cambridge: Cambridge University Press, 2015), 11.
-
Celeste Hicks, Africa’s New Oil: Power, Pipelines and Future Fortunes (London: Zed Books, 2015), especially Chapter One. See also Tom Long, A Small State’s Guide to Influence in World Politics (Oxford: Oxford University Press, 2022).
-
Oumar Ba, States of Justice: The Politics of the International Criminal Court (Cambridge: Cambridge University Press, 2020), 2.
-
Malik Mufti, Sovereign Creations: Pan-Arabism and Political Order in Syria and Iraq (Ithaca, NY: Cornell University Press, 1996), 2.
-
Donn Kurtz, “Political Integration in Africa: The Mali Federation,” The Journal of Modern African Studies 8, no.3 (1970): 405-424, at 417.
-
“Sirte Declaration,” 9 September 1999, https://archives.au.int/bitstream/handle/123456789/10157/1999_Sirte%20_Decl_%20E.pdf.
-
Jeanne Le Bihan, “Maroc-Mauritanie : quand un prédicateur réveille le contentieux territorial,” Jeune Afrique, 18 August 2022, https://www.jeuneafrique.com/1369844/politique/maroc-mauritanie-quand-un-predicateur-reveille-le-contentieux-territorial/.
-
Carolyn M. Shaw, “Limits to Hegemonic Influence in the Organization of American States,” Latin American Politics and Society 45:3 (2003): 59-92.
-
See Enrico Spolaore, “Monnet’s Chain Reaction and the Future of Europe,” VoxEU, 25 July 2015, https://cepr.org/voxeu/columns/monnets-chain-reaction-and-future-europe.
- عن تعامل الاتحاد الأوروبي الضعيف نسبياً مع تجاوزات رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان (Viktor Orbán)، انظر:
Philippe Dam, “European Parliament Ups Pressure for Action on Hungary,” Human Rights Watch, 15 September 2022, https://www.hrw.org/news/2022/09/15/european-parliament-ups-pressure-action-hungary.
-
Aderanti Adepoju, Alistair Boulton and Mariah Levin, “Promoting Integration through Mobility: Free Movement under ECOWAS,” UNHCR, 2007, https://www.unhcr.org/in/media/28647.
-
Markus Gastinger, “Brexit! Grexit? Frexit? Considerations on How to Explain and Measure the Propensities of Member States to Leave the European Union,” EUI Working Papers, Robert Schuman Centre for Advanced Studies, Number 85, 2019, https://cadmus.eui.eu/bitstream/handle/1814/64565/RSCAS_2019_85.pdf.
-
“A ‘Seismic’ Shift: Will Meloni’s Italy Turn Its Back on Europe?” France 24, 28 September 2022, https://www.france24.com/en/europe/20220928-will-the-new-far-right-government-of-italy-s-meloni-turn-its-back-on-europe.
-
Hannah Roberts, “Leaked Manifesto: Italian Right-Wingers Will Dump Euroskepticism in Bid for Power,” Politico Europe, 11 August 2022, https://www.politico.eu/article/italian-right-wingers-dump-euroskepticism-in-bid-to-win-power/.
-
Fabien Offner, “A Dozen Shades of Khaki: Counter-Insurgency Operations in the Sahel,” The New Humanitarian, 11 January 2018, https://www.thenewhumanitarian.org/analysis/2018/01/11/dozen-shades-khaki-counter-insurgency-operationssahel.
-
“Bamako: Des échauffourées à Badalabougou suite à la reprise des manifestations contre l’installation du QG du G5 Sahel,” Malijet, 5 July 2019, https://malijet.com/actualite-politique-au-mali/flash-info/229814-bamako-des-%C3%A9chauffour%C3%A9es- %C3%A0-badalabougou-suite-%C3%A0-la-reprise-des-m.html.
-
Jaehyon Lee, “Reviving Multilateralism in East Asia: Small and Medium Powers, Connectivity and Covid-19” in Responding to the Geopolitics of Connectivity: Asian and European Perspectives, eds. Christian Echle. Bart Gaens, Megha Sarmah, and Patrick Rueppel (Singapore: Konrad Adenaur Stiftung, 2020), 59-72, at 59, https://www.kas.de/documents/288143/10822438/Panorama_2019_02_4c_v5d_JaehyonLee.pdf/c32b6d83-6d6 5-5d1a-ad09-932b35de7ab9?t=1606102326182.
- استمرت مؤسّسات بريتون وودز حتى بعد انهيار «نظام بريتون وودز» نفسه الذي كان يضبط عملية التبادل النقدي، والذي قام في بداياته على ربط قيمة الدولار بالذهب، ووجود معيار «ربط متغيّر» آخر يضبط قيمة الدولار بالنسبة للعملات الأخرى. تخلّت الولايات المتحدة عن معيار الذهب عام ۱۹۷۱م، ولكن باتت أسس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي متينة ومستمرة بحلول ذاك الوقت.
-
Michael Gavin and Dani Rodrik, “The World Bank in Historical Perspective,” The American Economic Review 85, no.2 (1995): 329-334, at 331.
-
Petros Mavroidis and Andre Sapir, China and the WTO: Why Multilateralism Still Matters (Princeton: Princeton University Press, 2021), 3.
-
Christian Olaf Christiansen, “Partnerships Against Global Poverty: When ‘Inclusive Capitalism’ Entered the United Nations” in Histories of Global Inequality: New Perspectives, ed. Christian Olaf Christiansen and Steven L.B. Jensen (Cham, Switzerland: Springer/Palgrave Macmillan, 2019), 277-300, at 278.
-
“UN Chief: World ‘At the Breaking Point’ with Vast Inequality,” Al Jazeera, 18 July 2020, https://www.aljazeera.com/news/2020/7/18/un-chief-world-at-the-breaking-point-with-vast-inequality.
-
See Toyin Falola, Violence in Nigeria: The Crisis of Religious Politics and Secular Ideologies (Rochester, NY: University of Rochester Press, 1998), Chapter 3.
-
Emmanuel Igunza, “Should Africa Have a Single Passport?” BBC News, 19 July 2016, https://www.bbc.com/news/world-africa-36823644.